الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه ثلاث درجات فالأولى : لا يدخل فيها معنى الشكر أصلا ؛ لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ، ففرحه بالفرس لا بالمعطي ، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ، ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل ، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفا من عقابه ورجاء لثوابه ، وإنما الشكر التام في الفرح الثالث وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى ، والنزول في جواره ، والنظر إلى وجهه على الدوام فهذا هو الرتبة العليا وأمارته أن يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه ، عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله لأنه ، ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس لأنه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه ولذلك .

قال الشبلي رحمه الله الشكر : رؤية المنعم لا رؤية النعمة وقال الخواص رحمه الله : شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب وشكر الخاصة على واردات القلوب وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ، ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب ، فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة كما قيل :


ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا

فإذا هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى ، فإن لم تكن إبل فمعزى فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية .

التالي السابق


(فهذه ثلاث درجات: الأولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلا؛ لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس، ففرحه بالفرس لا بالمعطي، وهذا حال من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر) ، فإنه رؤية للنعمة لا للمنعم، (والثانية داخلة) وفي نسخة: والثاني داخل (في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفا من عقابه ورجاء لثوابه، وإنما الشكر التام في الفرح الثالث وهو أن يكون فرح العبد بنعم الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى، والنزول في جواره، والنظر إلى وجهه على الدوام) من غير انقطاع ولا انصرام (فهذا هو الرتبة العليا) [ ص: 52 ] التي إليها تنتهي الآمال والأماني، (وإمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة، وعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه) أي: تشغله (عن ذكر الله تعالى وتصده) أي: تمنعه (عن سبيله، فإنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة) وموافقة لطبعه (كما لم يرد صاحب الفرس الفرس لأنه جواد) وأصيل (ومهملج) أي: سريع السير في الركض، (بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه) ومكانته لديه، (ولذلك قال الشبلي رحمه الله تعالى: رؤية المنعم لا رؤية النعمة) نقله القشيري في الرسالة، أي: بأن يكون السابق منها إلى القلب رؤية المنعم، وهذا كما قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، أي: الغالب على القلب رؤية الله ومراقبته، فأي شيء حدث فيه لا يكون مذكرا له رؤية الله فإنه ذاكر غير غافل عنه .

(وقال الخواص:) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد من أقران الجنيد (شكر العامة) يكون (على المطعم والملبس والمشرب) ونحوها من النعم الظاهرة (وشكر الخاصة) يكون (على واردات القلوب) مما يرد عليها من المعاني التي يعرفها الأولياء، تصرف الغفلات بالورع والزهد وغيرهما، وهذا القول نسبه القشيري في الرسالة إلى أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الجبري تلميذ أبي حفص الحداد ولفظه. وقال أبو عثمان: شكر العامة على المطعم والملبس، وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني. (وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج، ومدركات الخواص) الظاهرة (من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب، فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه) وهي اللذة المعنوية، (وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات) وتمكنت منه (كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين) وذلك لفساد مزاجه، (وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة) ويستكرهها (ويستحلي الأشياء المرة) البشعة (حتى قيل) قائله المتنبي:


( ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا

فإذا هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى، فإن لم تكن إبل فمعزى) وهو جار مجرى الأمثال، (فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية) بأن يفرح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنه يستدل بها على عناية المنعم به .




الخدمات العلمية