الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وسئل حمدون القصار عن التوكل فقال : إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء ، لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة وأن في المقدورات أسبابا خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة .

وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال التعلق بالله تعالى في كل حال فقال السائل : زدني فقال ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك فالأول عام للمقامات الثلاث والثاني : إشارة إلى المقام الثالث خاصة وهو مثل توكل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قال له جبريل عليه السلام : ألك حاجة فقال : أما إليك فلا إذ كان سؤاله سببا يفضي إلى سبب ، وهو حفظ جبريل له فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك ، فيكون هو المتولي لذلك ، وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله تعالى ، فلم ير معه غيره .

وهو حال عزيز في نفسه ودوامه إن وجد أبعد منه وأعز .

وقال أبو سعيد الخراز التوكل اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب ولعله يشير إلى المقام الثاني ، فسكونه بلا اضطراب إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به واضطراب بلا سكون إشارة إلى فزعه إليه ، وابتهاله وتضرعه بين يديه ، كاضطراب الطفل بيديه إلى أمه ، وسكون قلبه إلى تمام شفقتها .

وقال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات : التوكل ، ثم التسليم ، ثم التفويض .

التالي السابق


(وسئل) أبو صالح (حمدون) بن أحمد بن عمارة القصار -رحمه الله تعالى- (عن التوكل) ما هو؟ (فقال: إن لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى ذلك في عنقك) فعجل قضاءه ولا تغتر بكثرة مالك (ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء، لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها) ، وفي نسخة: أن يقضيه (عنك) فاعتمد على الله، وحسن ظنك به، ولا تيأس أن يقضي عنك ما عليك، أورده القشيري فقال: وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن محمد المعلم يقول: سمعت عبد الله بن منازل، يقول: سمعت حمدون وسئل عن التوكل... فساقه .

(وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة وإن في المقدورات أسبابا خفية) لا يطلع عليها (سوى هذه الأسباب الظاهرة) ، فمفاد قول حمدون: إن التوكل عبارة عن الاعتماد على الله وحسن الظن به، وعدم اليأس عن روحه، وهذا المعنى أقرب مما أشار إليه المصنف .

(وسئل أبو عبد الله) محمد بن أحمد (القرشي) ، ترجمه القوصي في الوحيد (عن التوكل) ما هو؟ (فقال) : هو (التعلق بالله تعالى في كل حال) ، والمراد به الاعتماد عليه (فقال السائل: زدني) في البيان (فقال) : هو (ترك) الاعتماد على (كل سبب) ولو لم يباشر المطلوب، بل كان (يوصل إلى سبب) آخر يباشر المطلوب (حتى يكون الحق) تعالى (هو المتولي لذلك) فيصرفك كيف يشاء، هكذا أورده القشيري (فالأول عام في المقامات الثلاث) ؛ إذ التعلق بالله لا بد منه في كل منها .

(و) الجواب (الثاني: إشارة إلى المقام الثالث) الذي هو أعلى الثلاثة، وهذا يدلك على أن المشايخ إنما يجيبون فيما يسألون على قدر مقام السائلين؛ فإنه في الأول أجاب بما يعم الثلاث، فلما استزاده وتفرس فيه القوة أجاب بما هو أخص وأعلى، ويحتمل أن يقال: إنه أجاب أولا بحقيقة التوكل، وعبر عنه بالتعليق بالله خاصة، فاستزاده بما يثبت له هذا المقام فأجاب: أن اترك الأسباب تصل إلى ذلك، وفي ترك الأسباب كلام يأتي فيما بعد .

(وهو مثل توكل إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال له جبريل -عليه السلام-: ألك حاجة) ، وهو مكتف مربوط في كفه المنجنيق بين السماء والأرض، يهوي إلى نار وقد تأججت (فقال: أما إليك فلا) فأعرض عنه وتعلق بالله؛ (إذ كان سؤاله سببا يفضي إلى سبب، وهو حفظ جبريل له) عن السقوط في النار (فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك، فيكون هو المتولي لذلك، وهذا حال مبهوت) مدهوش (غائب عن نفسه بالله تعالى) ، أي: فيه (فلم ير معه غيره لفنائه فيه عنه، وهو حال عزيز في نفسه ودوامه إن وجد) في السالك (أبعد منه وأعز) ، وهو منتزع من سياق القشيري قال: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن جعفر بن محمد، يقول: سمعت أبا بكر البرذعي، يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: التوكل على كمال الحقيقة ما وقع لإبراهيم -عليه السلام- في الوقت الذي قال لجبريل -عليه السلام- أما إليك فلا؛ لأنه غابت نفسه بالله فلم ير مع الله غيره اهـ .

وقد تقدم للمصنف نحو ذلك في الفناء في التوحيد، وقال صاحب القوت: سئل الإمام أحمد عن التوكل؟ فقال: هو قطع الاستشراف بالإياس عن الخلق، قيل له: فالحجة فيه قال إبراهيم -عليه السلام- قال له جبريل: ألك حاجة؟ قال: إليك لا، قال: فسل من لك إليه حاجة فقال: أحب الأمرين إلي أحبهما إليه، هكذا ذكره أحمد، فكأنه جعل التوكل التفويض والرضا بجريان الأحكام من غير مسألة ولا اعتراض، وهذا لعمري هو حال المتوكلين .

(وقال أبو سعيد) أحمد بن عيسى (الخراز) المتوفى سنة 277: (التوكل) هو (اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب) نقله القشيري، (ولعله يشير إلى المقام الثاني، فسكونه بلا اضطراب إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به) واعتماده [ ص: 471 ] عليه (واضطرابه بلا سكون إشارة إلى فزعه إليه، وابتهاله وتضرعه بين يديه، كاضطراب الطفل ببدنه إلى أمه، وسكون قلبه إلى تمام شفقتها) والذي فهمته من قول أبي سعيد أنه أشار بقوله ذلك إلى أن ترك الأسباب ليس من التوكل في شيء، وإنما القصد عدم سكون القلب إليها بحال، فهذا هو معنى قوله: اضطراب بلا سكون، ثم بعد مباشرته لها إن تغيرت فلا يضطرب لذلك، بل يديم سكون قلبه إلى مسببها، ويؤيده ما قال سهل فيما نقله القشيري: التوكل حال النبي -صلى الله عليه وسلم- والكسب سنته، فمن بقي على حاله فلا يتركن سنته اهـ .

أي يكون السابق لقلبه سكونه إلى الله تعالى بلا اضطراب في التعلق بالأسباب، فأشار به إلى تمام التوكل الذي هو عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، فلا يقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، فأراد بالاضطراب الأول الضرب في الأرض للتكسب إن كان معيلا، وأراد بالاضطراب الثاني وهو المنفي تعلق القلب .

وإن شئت قلت: التوكل هو اضطراب بلا اضطراب، أو هو سكون بلا سكون، ويراد بالسكون الأول التعلق بالسبب، وبالثاني سكون القلب، وكلام أبي سعيد من أبدعه وأحسنه وما شرحناه به أقعد مما أشار إليه المصنف، والله أعلم .

(وقال أبو علي) الحسن بن علي (الدقاق) النيسابوري، شيخ القشيري (للمتوكل من حيث هو ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض) وكل من الأخيرين أعلى مما قبله، كما أفاده سياقه هنا .




الخدمات العلمية