الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قال أبو عبد الله الرازي: (والجواب على منهجين: الأول: إجمالي، وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين : إحداهما: [ ص: 113 ] أن المحدث لا بد وأن يكون ممكنا، لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدودا في شيء من الأوقات. وثانيهما: أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح. وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل، وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية.

وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية، وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات، فكذلك ما ذكرتموه) .

قال: (وهذا جواب قاطع للمنصف) .

قال: (والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل) .

إلى أن قال: (قوله: إذا ثبت كون المحدثات ممكنة، وجب [ ص: 114 ] استنادها إلى مؤثر. قوله: تدعون فيه الضرورة أو النظر؟ قلنا: بل ندعي فيه الضرورة، فإنا إذا فرضنا إنسانا سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات، ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان: هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلا؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك.

وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلا، ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة وقصرا مشيدا، فإنه مضطر إلى العلم بوجود بان وصانع، وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك، بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك، لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئا لم يتوقعوا حصوله هناك، حملتهم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع، فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية. قوله: إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الاثنين، وعرضنا أيضا أن الممكن [ ص: 115 ] لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح، وجدنا الأول أظهر. قلنا: هذا ممنوع، وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جليا، وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء، كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء، وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية، وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية. قوله: إن جمعا من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان فساد ذلك ضروريا لما قالوا به. قلنا: إنهم لم يلتزموا ذلك، بل غايته أن صار ذلك لازما على مذاهبهم، وليس كل ما صار لازما وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب. والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه، وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب، فإنهم يحتالون [ ص: 116 ] في الجواب عن ذلك، سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة، وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري. وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها، فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها. قال: وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب، فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة) .

التالي السابق


الخدمات العلمية