الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والصواب قول ثالث، وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون الأثر عقبه، لا مقارنا له، ولا متراخيا عنه. كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق.

قال تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [سورة يس:82]، فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه. وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه. وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم، فإنه إنما يكون عقب تكوينه له، [ ص: 271 ] فهو مسبوق بغيره سبقا زمانيا. وما كان كذلك لا يكون إلا محدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام.

وأما على قول هؤلاء، فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولهم. منها: أنه لا يحدث في العالم شيء، فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان، وكل ما سواه معلول له بوسط أو بغير وسط، لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا.

ومنها: أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد. وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء، وهو تسلسل علل ومعلولات، أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها، فإنه كلما حدث حادث، فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه، وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ما هو كذلك، فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى، أو تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد.

وإذا قالوا: كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم، لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني. وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه.

ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون: المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها، فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول. [ ص: 272 ]

وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى.

وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين، فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع، كالحجر الهابط، وكالمسافر إلى بلد، فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا، والمقتضي لقطعه المسافة، وهو قصده تلك المدينة، قائم. لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول.

فيقال لهم: هذا يدل على فساد قولكم، فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره، ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه، فليس هذا نظير قولكم، بل هو نظير قول من يقول: لم يزل يحدث شيئا بعد شيء، وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول.

وهذا نظير قول من يقول: لم يزل متكلما إذا شاء، فعالا لما يشاء، فوجود الثاني، كالإرادة الثانية، والكلمة الثانية، والفعل الثاني، مشروط بانقضاء الأول، وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضي لوجود الثاني. وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلا، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم [ ص: 273 ] ألبتة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو وحده الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق، كما قال تعالى: الله خالق كل شيء [سورة الزمر:62] .

وهؤلاء لما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام، أو حدوث العالم، بامتناع حوادث لا أول لها، ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة. ولهذا كان أئمة أهل الكلام، كالرازي وغيره، يوافقونهم على فسادها، فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية "كالأربعين" "ونهاية العقول" وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها، كما تقدم تقريره، واعتراض إخوانه عليه، فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة، ويقرر وجوب دوام الفاعلية، وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب، وامتناع حدوثها في غير زمان، ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب، كما فعل ذلك في كتاب "المباحث المشرقية" وغيره.

ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه، كالآمدي والأبهري والأرموي صاحب "لباب الأربعين" وغيرهم، أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه، أو أخذوه هم من حيث أخذه هو.

وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته، ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له، فأجدهم قد أخذوا ذلك [ ص: 274 ] الاعتراض أو الجواب، أخذوه، من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي، فإنه أخذه من "المطالب العالية".

التالي السابق


الخدمات العلمية