الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واحتجوا بقوله في الحديث: « كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء» يعني سالمة: « هل تحسون فيها من جدعاء» يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم، لأنها تولد كاملة الخلق، لا يتبين فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحاير وهذه سوايب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة، فلما بلغوا [ ص: 443 ] استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم، ما انتقلوا عنه أبدا، وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون. قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا.

قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [سورة النحل:78] فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار.

قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها، وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة، بدليل قوله في حديث عياض بن حمار: إني خلقت عبادي حنفاء، يعني على استقامة وسلامة، فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات [ ص: 444 ] كلها والزيادات، ومن المعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما.

ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى: إنما تجزون ما كنتم تعملون [سورة التحريم:7]، كل نفس بما كسبت رهينة [سورة المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. قال الله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [سورة الإسراء:15] .

قلت: هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد، لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه، فلما ذكر أن أبويه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر.

وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب، ولا استقامة ولا زيغ، إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة، وليس هو بأحدهما [ ص: 445 ] أولى منه بالآخر، كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف، ولا حكم ذم كقرآن مسيلمة، والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة، لا يثبت له حكم واحد منهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية