الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم ، وحواء من الأرض

قيل : ثم إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه ، وهو يوم الجمعة ، مع زوجته حواء من السماء .

فقال علي ، وابن عباس ، وقتادة ، وأبو العالية : إنه أهبط بالهند على جبل يقال له نوذ من أرض سرنديب ، وحواء بجدة . قال ابن عباس : فجاء في طلبها فكان كلما وضع قدمه بموضع صار قرية ، وما بين خطوتيه مفاوز ، فسار حتى أتى جمعا فازدلفت إليه حواء ، فلذلك سميت المزدلفة ، وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات ، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعا . وأهبطت الحية بأصفهان ، وإبليس بميسان . وقيل : أهبط آدم بالبرية ، وإبليس بالأبلة .

[ ص: 35 ] قال أبو جعفر : وهذا ما لا يوصل إلى معرفة صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة ، ولا نعلم خبرا في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند ، فإن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام .

قال ابن عباس : فلما أهبط آدم على جبل نوذ كانت رجلاه تمسان الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة ، فكانت تهابه ، فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله إلى ستين ذراعا ، فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم ، فقال : يا رب ، كنت جارك في دارك ليس لي رب غيرك أدخلتني جنتك آكل منها حيث شئت ، وأسكن حيث شئت ، فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة ، فحططتني إلى ستين ذراعا ، فقد انقطع عني الصوت ، والنظر ، وذهبت عني ريح الجنة ! فأجابه الله تعالى : بمعصيتك يا آدم فعلت بك ذلك . فلما رأى الله تعالى عري آدم وحواء أمره أن يذبح كبشا من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة ، فأخذ كبشا ، فذبحه ، وأخذ صوفه . فغزلته حواء ، ونسجه آدم ، فعمل لنفسه جبة ، ولحواء درعا ، وخمارا ، فلبسا ذلك .

وقيل : أرسل إليهما ملكا يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن ، والأنعام .

وقيل : كان ذلك لباس أولاده ، وأما هو وحواء فكان لباسهما ما كانا خصفا من ورق الجنة ، فأوحى الله إلى آدم : إن لي حرما حيال عرشي فانطلق ، وابن لي بيتا فيه ، ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي ، فهنالك أستجيب لك ، ولولدك من كان منهم في طاعتي . فقال آدم يا رب ، وكيف لي بذلك ! لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه . فقيض الله ملكا فانطلق به نحو مكة ، وكان آدم إذا مر بروضة قال للملك : انزل بنا ههنا . فيقول الملك : مكانك ، حتى قدم مكة ، فكان كل مكان نزله آدم عمرانا ، وما عداه مفاوز . فبنى البيت من خمسة أجبل : من طور سينا ، وطور زيتون ، ولبنان ، والجودي ، وبنى قواعده من حراء ، فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات ، فأراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم ، ثم قدم به مكة فطاف بالبيت أسبوعا ، ثم رجع إلى الهند فمات على نوذ .

[ ص: 36 ] فعلى هذا القول أهبط حواء وآدم جميعا ، وإن آدم بنى البيت ، وهذا خلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى منه : أن البيت أنزل من السماء .

وقيل : حج آدم من الهند أربعين حجة ماشيا . ولما نزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنة ، فلما وصل إلى الأرض يبس فتساقط ورقه فنبتت منه أنواع الطيب بالهند .

وقيل : بل الطيب من الورق الذي خصفه آدم وحواء عليهما .

وقيل : لما أمر بالخروج من الجنة جعل لا يمر بشجرة منها إلا أخذ منها غصنا فهبط وتلك الأغصان معه فكان أصل الطيب بالهند منها ، وزوده الله من ثمار الجنة ، فثمارنا هذه منها ، غير هذه تتغير ، وتلك لا تتغير ، وعلمه صنعة كل شيء ، ونزل معه من طيب الجنة ، والحجر الأسود ، وكان أشد بياضا من الثلج ، وكان من ياقوت الجنة ، ونزل معه عصا موسى ، وهي من آس الجنة ، ومن لبان ، وأنزل بعد ذلك العلاة ، والمطرقة ، والكلبتان .

وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير يوسف . وأنزل عليه جبرائيل بصرة فيها حنطة ، فقال آدم : ما هذا ؟ قال : هذا الذي أخرجك من الجنة فقال : ما أصنع به ؟ فقال : انثره في الأرض . ففعل ، فأنبته الله من ساعته ، ثم حصده ، وجمعه ، وفركه ، وذراه ، وطحنه ، وعجنه ، وخبزه ، كل ذلك بتعليم جبرائيل ، وجمع له جبرائيل الحجر والحديد ، فقدحه ، فخرجت منه النار ، وعلمه جبرائيل صنعة الحديد ، والحراثة ، وأنزل إليه ثورا ، فكان يحرث عليه ، قيل هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .

ثم إن الله أنزل آدم من الجبل وملكه الأرض وجميع ما عليها من الجن ، والدواب ، والطير ، وغير ذلك ، فشكا إلى الله تعالى وقال : يا رب ، أما في هذه الأرض من يسبحك غيري ، فقال الله تعالى : سأخرج من صلبك من يسبحني ، ويحمدني ، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري ، وأجعل فيها بيتا أختصه بكرامتي ، وأسميه بيتي ، وأجعله حرما آمنا ، فمن حرمه بحرمتي فقد استوجب كرامتي ، ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمتي ، وأباح حرمتي ، [ ص: 37 ] أول بيت وضع للناس فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلي ، وزارني ، وضافني ، ويحق على الكريم أن يكرم وفده ، وأضيافه ، وأن يسعف كلا بحاجته ، تعمره أنت يا آدم ما كنت حيا ، ثم تعمره الأمم ، والقرون ، والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة .

ثم أمر آدم أن يأتي البيت الحرام ، وكان قد أهبط من الجنة ياقوتة واحدة ، وقيل : درة واحدة ، وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح - عليه السلام - فرفع وبقي أساسه ، فبوأ الله لإبراهيم - عليه السلام - فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

وسار آدم إلى البيت ليحجه ، ويتوب عنده ، وكان قد بكى هو وحواء على خطيئتهما ، وما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما ، ثم أكلا وشربا بعدها ، ومكث آدم لم يقرب حواء مائة عام ، فحج البيت ، وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، وهو قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .

( نود بضم النون ، وسكون الواو ، وآخره دال مهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية