الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الإعـلان من منظـور إسلامي

الدكتور / أحمد عيساوي

(7) مبدأ الفطرية والبعد عن الإثارة

يسعى الإعلان الغربي خلال ممارساته لنشاطاته الإعلانية عن السلع والخدمات والتسهيلات والمنشآت، إلى إحداث موثرات فاعلة في دماغ الإنسان ومراكز اتخاذ القرار لديه (عقله، عاطفته، شهواته) ، بدرجات متفاوتة الاستجابة والتأثير بين فرد وآخر ومجتمع وآخر، تبعا [ ص: 98 ] لنوعية شخصية ذلك المستهلك، وطبيعة تكوينه التربوي، ومستواه الثقافي، وحقيقة إيمانه وتدينه، ومدى تمسكه بمبادئه، ودرجة انصهاره القيمي والأخلاقي.. فتؤثر بتقنياتها الهندسية، وفنياتها الإخراجية على الفرد والمجتمع -على تباين بين مستويات التأثير- فتحدث في جمهور المستهلكين الاستجابة المطلوبة -التي يرضى عنها المنتج والمعلن معا- فيقبل مباشرة على اقتناء ما تعلن عنه.

وأقصى نجاحاتها الإعلانية الدعائية هو أن يصل الإنسان -في ظل تأثيراتها الفنية والإخراجية الساحرة- إلى درجة الاستسلام العقلي، والاسترخاء الفكري، ويصبح دماغه معطلا عن ممارسة عملية التفكير، ويغدو مستعدا لقبول إيحاءات عالم الإعلانات السحري المفروض عليه بواسطة ما تبثه الوسائل الإعلامية المختلفة. [1]

ويعمل مصممو ومخرجو الإعلان الغربي -عند إعداد إعلاناتهم- على توظيف أكبر قدر ممكن من الفنيات التهييجية والتقنيات الإثارية التي تسلب عقول الجمهور المستهلك، وتشل مواطن القرار لديه، وتسلمه لشهواته، وعواطفه، وغرائزه، التي يراها محققة في عالم الإعلانات السحري فقط مما يضطره مستسلما للإقبال عليه.

ويركز مصممو الإعلان الغربي على غرائز الطمع، والرغبة، والطموح، وحب الاقتناء، وحب الدعة والاسترخاء، والتطلع إلى [ ص: 99 ] الراحة والمتعة، وغيرها من الرغبات، التي تحرك بقوة تطلع وطموح الشباب من الجنسين لحياة أفضل، وتدغدغ عواطفهم في العمق، وتثير أحاسيسهم الجنسية بشتى مظاهر الزينة الوقحة من ثياب وعطور ومظاهر ساحرة موجودة في عالم الإعلانات المغري، لغرض زيادة عدد المقبلين من الجمهور المستهلك على السلع والخدمات التي يعلن عنها.

والإعلان الإسلامي الذي يستند إلى مبادئ الإسلام السمحة، التي تعترف صراحة بحقيقة الغريزة الجنسية في الإنسان، وتقر بوضوح بتأثيرات دوافعها المختلفة فيه، وتدرك أهميتها الكبرى، ودورها الرئيس لتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض، لا تستقذرها، [2] ولكن تنظمها وتضبطها وفق مسارب شرعية تكريمية ترقى بمستوى الإنسان، ويتم له من خلالها تصريفها والتمتع بها.

ومع هذا الاعتراف الصريح بأهمية وتأثير عالم العواطف والغرائز، لكنه محظور عليه مطلقا بأدلة الشرع أن يوظفه توظيفا استغلاليا مثيرا بغرض التنويع الإخراجي، والإثارة الإعلانية، لجلب الجمهور لاقتناء [ ص: 100 ] السلع أو غيرها.

إن الإعلان الإسلامي مأمور بالابتعاد كلية عن كل أشكال الابتذال، والخلاعة، والإثارة، وتهييج الشباب والفتيات من أجل الترويج للأحذية، أو الألبسة، أو العطور، أو الرحلات السياحية الماجنـة.. لذلك فهو يرفـض هذا الابتـذال المسـف بالقيم والمبادئ الدينية الخـالدة لتنـافيها المطلق مع حقائق التنزيل المقدسة، التي كرمت الإنسان وفضلته على سائر المخلوقات، وصانته بستره لعوراته، وفضلته بنعمة الحياة، وكرمته بفضيلة الارتقاء الغريزي عن ما هو عليه في عالم الحيوانات.

إن الإعلان الإسلامي خلال ممارساته الإشهارية، يعمد إلى تجسيد القيم الفاضلة، ويقربها إلى عقول الجمهور، ويرتقي بهم من حالة التردي والمتاجرة بعالم الغريزة والشهوات، لأن عواطف الإنسان ومشاعره وغرائزه في الإسلام ليست مجالا مفتوحا للمتاجرة الرخيصة مـن أجل تحقيـق الأرباح. وعلى الرغم من اعتراف الإسلام بعالم الغريزة في الإنسان، إلا أنه لا يعتبرها وحدها المحرك الرئيس في الإنسان العاقل الراشد.

وقد بينت نتائج الدراسات الإعلانية التي قامت بها مراكز البحث والدراسة المتخصصة في تقنيات الإعلان في الغرب، أن عنصر تأجيج [ ص: 101 ] الغريزة الجنسية لدى جمهور المستهلكين، عن طريق الاستعراضات العاطفية المغرية التي تقوم بها الفتيات العارضات، والتي تصاحب عرض السلع أو الخدمة، لم تعد مجدية، ولم تعد تشكل الدافع الحقيقي لتأجيج حمية الجمهور للإقبال على السلع والخدمات، وأن عنصر المرأة لم يعد الدافع القوي والحافز الحقيقي لجلب الجمهور نحو السلعة أو الخدمة..

لقد اكتشف الغرب مؤخرا أن المرأة والغريزة الجنسية لم تعد تشكل عنصر جذب في نجاح الإعلان والحملة الإعلانية. ولذا فإنهم تخلوا عنها في الكثير من الإعلانات، ولم يصلوا إلى هـذه الحقيـقة إلا بعد التجريب الميداني لها في عالم الإعلان.

والإعلان الإسلامي، الذي ينطلق من الفلسفة الإعلامية الإسلامية، التي تنطلق بدورها من مبادئ الإسلام وتعاليمه الفطرية السمحة، لا يقف عائقا في وجه هذه الغرائز، ولا يعمل على كبتها وقهرها، بل هو معني بتفهمها أولا، ومعرفة مداخلها الفطرية الطبيعية ثانيا، ثم الانطلاق إلى إعداد الخطة الإعلانية الشرعية المناسبة للتعامل معها ثالثا.

إن عالم الغريزة والعواطف في الإنسان، مداخل طبيعية وفطرية للدخول إلى نفسية المواطن، المسلم وغير المسلم، وبوابات دعوية للغوص في أعماقه وفي سائر جوانب حياته وفق الضوابط الشرعية [ ص: 102 ] بدءا من الحاجة إلى الطعام والكساء والأمن، وانتهاء بالغريزة الجنسية، وفطرية التوالد والتناسل، وحب البقاء.

ومع الاعتراف الفطري المبدئي بها، لا يجوز له أن يثيرها، ولا أن يعمد إلى تهييجها السافر بهدف جلب الربح المادي فقط، منطلقا وممارسة وغاية.

وهنا وجب التمييز بين الدفع الرقيق والمعقول للإعلان الإسلامي، الذي يمارسه برفق -وفق الضوابط الشرعية- للكشف عن العواطف وتفهم حقيقة عالم الغرائز، لإيجاد أيسر السبل لإشباعها على مبدأ: ( إن في بضع أحدكم لأجرا ) [3] وبين التهييج الإثاري الذي يمارسه الإعلان الغربي معها.

وكذلك وجب التمييز بين التعاطي الشرعي والمعقول لعالم العواطف والغرائز على مبدأ:

( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26) ،

وبين استغلالها استغلالا غريزيا بشعا على شاكلة ما يمارسه الإعلان الغربي.

ثم إن مبدأ الفطرية السمحة والبعد عن الإثارة والتهييج، يقتضي أيضا الالتزام بمبدأ البعد عن كل أشكال المبالغة، لأن الإعلان الإسلامي محكوم عليه أثناء ممارساته الإعلانية -للجمهور المسلم ولغيره- بالبعد [ ص: 103 ] عن المبالغة والادعاءات الوهمية والصراخات التضخمية، ولو على سبيل الإخراج الفني التقني، حيث إن توظيف الحيل الفنية الإخراجية في الإعلان -وفق هذه الضوابط- تجعل من الأمور التي يعلن عنها سريعة الفاعلية، قوية التأثير، عظيمة النتائج، بعيدة عن كل أشكال المضاعفات والسلبيات، وغير ذلك.

إنه مأمور بتجنب كل أشكال الإثارة، والتهييج، والمبالغة، لما يعلن عنـه، من أنها سـلع راقية، وسحرية، وفعالة، وذات مـردوديـة خيالية.. وسرعان ما يقبل عليها الجمهور المستهلك، ثم تخيب آماله وتطلعاته فيها.





[4]

وبالتزامه الفطرية في المنطلق، والبساطة في الطرح، والصدق في العرض، والدقة في الإخراج، والهدوء في الألوان، والاتزان في [ ص: 104 ] الأصوات، والمشروعية في الحركات والفنيات والأشكال، ينطلق الإعلان الإسلامي -بإذن الله- لكسب الجمهور المسلم، وغيره، عاملا بالمبدأ الـقرآني الخالد في عالـم العقائد، والأفـكار، والأشـياء:

( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108) .

وبعرضه الهادئ والمتزن، يغدو الإعلان الإسلامي أحد وسائل التبشير الـدعـوي بالديـن الإسـلامي، عـلى الصعيد المحـلي والإقليـمي والعالمي.

التالي السابق


الخدمات العلمية