الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الإعـلان من منظـور إسلامي

الدكتور / أحمد عيساوي

(3) مبدأ الدقة العلمية الشرعية

كثيرا ما تعرض قنوات ووسائل الإعلام الغربية أو العربية برامج علمية تتناول الجانب الطبي، أو الصحي، أو البيئي، الإيجابي أو السلبي لسلعة من السلع، أو لخدمة من الخدمات، كعرض برنامج علمي عن مضار التدخين المتعددة، ثم يتلو ذلك البرنامج العلمي إعلان مناقض تماما لحقيقة تلك المعطيات العلمية المقدمة آنفا، حيث نراه يزين التدخين، ويحبذه لدى جمهور المشاهدين. بل ويجعله مظهرا من مظاهر الرجولة، وعلامة من علامات الفتوة والشباب، ومستوى راقيا من مستويات الكمال والنضج، ودليلا على سمو مستوى التحضر لدى الفرد المدخن.. فيفجأ مثل هذا الإعلان -الذي لا يراعي الحقائق العلمية- جمهور المشاهدين، ويسبب لهم تناقضات نفسية، وفكرية، وتربوية.

ونظرا للوضعية السيئة التي آل إليها أمر الإعلان في الغرب، تحركت جمعيات التسويق، وجمعيات حماية المستهلك، وغيرها، لوضع حد لمثل هذه التناقضات، وقدمت شروطا دقيقة عرضت في البرلمانات والمجالس النيابية، وبعد مناقشاتها أصبحت قوانين صارمة [ ص: 83 ] يلتزم بها المنتجون والمعلنون معا.







[1]

والملاحظ أنه بعد الانزلاقات الخطيرة التي آل إليها أمر الإعلان في الغرب عامة، وخاصة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، تحركت المؤسسات الجمعية لوضع حد لكل محاولات العبث والتلاعب الإعلاني بالجمهور، وكان دافعها الرئيس هو ضمان القدر الأكبر من النجاعة والمردودية المادية فقط، وتجنب القدر الأكبر من الخسارة والانهيار المادي البحت. واستطاعت -بعد صراع ثقافي ونقابي مرير مع المنتجين ووكالات الإعلان- أن تسن القوانين الصارمة، التي تنظم شأن الإعلان والمعلنين والمنتجين.

ولئن توصل الغرب لوضع حد لعبث الوكالات الإعلانية والمنتجين مدفوعا بإلحاح العامل المادي، فإن الأمر يختلف في الإعلان الإسلامي، الذي يجب عليه أن يتأسس على قواعد مرجعية وقيم ثابتة تحميه من [ ص: 84 ] التردي العبثي بالقيم والجمهور.

[2]

ولن يتأتى للإعلان الإسلامي ذلك إلا إذا استند إلى قواعد الإسلام الأصولية في هذا الجانب، لأن مبدأ الدقة العلمية الشرعية يقتضي منه أن يكون محكوما بأخلاقيات الإسلام، وعلى رأسها التزامه بمبدأ ذكر حقيقة ما يعلن عليه بكل أمانة وصدق.

إن إظهار الحقيقة مبدأ أساس في الإعلان الإسلامي، وهي قبل ذلك مبدأ أساس في الديـن الإسـلامي، الذي يقـوم على أصالة ووحدة الحقيقة، المستمدة من وحدانية الحق المطلقة. لذا وجب على الإعلان الإسلامي أن يلتزم بمبدأ ذكر الحقيقة، لأن الإعراض عنها إضرار متعدد الجوانب، فهو يضر بالمنتج أولا، وبالجمهور المستهلك ثانيا، وبالإعلان ثالثا.

وعليه فإن الإعلان الإسلامي مدعو للالتزام ببيان ما يلي:

1- خصائص السلعة: نوعها، وحقيقة المواد المصنوعة منها، وأصلها الحقيقي، وموطنها الأصلي.

2- سعر السلعة: قيمتها، مناسبتها، شروط الشراء والبيع وظروفه. [ ص: 85 ]

3- الخدمـات المصاحبـة للشـراء: كالتـوصيل إلى المنـازل مجـانا، أو المبادلة، أو الرد، أو الصيانة ما بعد البيع.. وغيرها.

4- التوصية بالسلعة بواسطة شخص أو أشخاص معينين: ويجب عدم استعمال هذه التوصيات إلا إذا كانت حقيقية وواقعية في السلع والخدمات والتسهيلات والمنشآت..

ومبدأ ذكر الحقيقة، يترتب عليه الالتزام بمبدأ الصدق، لأن الصدق مبدأ أساس فيه وفي الدين الإسلامي، وقد فرض المولى تبارك وتعالى على المسلمين أن يلتزموا بخلق الصدق كمبدأ أصيل في جميع أحوالهم وشئونهم الروحية، والمادية.

وقد ثار جدل كبير بين المعلنين والأخلاقيين في الغرب حول آثار الإعلان الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التربوية، وعن مدى نجاحه في التأثير في جمهور المستهلكين المحتملين، وقدرته في حملهم على الإقبال على السلعة واقتنائها، ومدى ارتباط هذا التأثير الإعلاني في مخيال الجمهور بمدى صدق المعلومات المقدمة في الإعلان أو كذبها. وأسفر ذلك الجدل عن تصورين رئيسين:

أحدهما يرى أن مبدأ الصدق غير مهم في التأثير على جمهور المستهلكين الحقيقيين والمرتقبين، لأن الجمهور يقبل على السلع وغيرها بدوافع كثيرة، وليس الصدق الإعلاني دافعه الرئيس.

فيما ذهب الأخلاقيون والاجتماعيون وقادة الرأي إلى أن الصدق [ ص: 86 ] الإعلاني هو العامل الرئيس في التأثير في الجمهور، لأن أساس الاتهامات التي يوجهها الجمهور إلى الإعلانات عادة ما يكون مصدرها اكتشاف حالات من الكذب، والابتعاد عن ذكر الحقيقة، ومجانبة الواقع كما هو، وبالتالي تفتقد الثقة في الإعلانات. [3]

ويعتبر الإعلان غير صادق إذا احتوى على معلومات غير حقيقية ولو على سبيل الإخراج الخيالي أو الترفيهي بإحدى الطرق الفنية، وذلك لبعده عن الحقيقة والواقع. كما يعتبر الإعلان غير صادق إذا أوجد شعورا مضللا في أذهان المستهلكين المرتقبين، إن بالإيحاء المباشر إليهم أو بالاستنتاج الخاطئ من مقدمـاته، أو من فنياته الخاطئة. وذلك مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق الذكر: ( من غشنا فليس منا ) . [4]

ومن هنا يجب على الإعلان الإسلامي أن يلتـزم بمبدأ الصدق في كل ما يعلنه، وفي كافة تعاملاته الإشهارية داخل المجتمع المسلم وخارجه.

ثم إن مبدأ ذكر الحقيقية كما هي، لا يقتضي الالتزام بمبدأ الصدق المجرد فحسب، بل يقتضي التزام مبدأ الأمانة الشرعية. لأن مبدأ الأمانة الشرعي هو الضمان الأكيد لما تعلن عنه وكالة الإعلان الإسلاميـة، وذلك بتحملها التـام والكـامل للمسئولية الشرعية لكل ما يحتويه الإعلان، كمرحلة ما بعد البيع، من نقل وإصلاح وصيـانة [ ص: 87 ] أو تبديل أو تعديل، إلى غير ذلك من أشكال الضمان.

لأن الملاحظ على جل المعلنين ووكالات الإعلان تقديم العروض المغرية لجمهور المستهلكين، ثم يعلق الجمهور الآمال الكبار على تلك الوعود الجميلة والمطمئنة التي حمتلها إليهم الإعلانات الساحرة، وسرعان ما يكتشفون خيانة المعلنين ووكالات الإعلان لما وعدوا به عندما يتخلون عنهم مباشرة -وبكل لؤم وخسة- بعد إتمام عملية البيع واقتناء السلعة، فيغررون بهم أيما تغرير.

وهذا ما يحرم على وكالة الإعلان الإسلامي ممارسته مطلقا في كافة نشاطاتها الإشهارية، المحلية داخل نطاق المجتمع المسلم، والإقليمية مع المجتمعات المجاورة الإسلامية وغير الإسلامية، والعالمية.

التالي السابق


الخدمات العلمية