الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود أن نفاة الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون إنه على العرش يقولون: لا نسلم أنه إذا كان هو بنفسه فوق العرش أنه يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم أن يوصف بالانقسام، وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى، كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم، وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره؛ فإنهم يقولون: هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق [ ص: 738 ] العرش ما هو جسم، أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم؛ لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له، فلا يكون متناهيا محدودا مقسوما إلا ما يكون جسما، ولا يكون جسما إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك.

قالوا لمنازعيهم من النفاة: فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على أنه ليس بجسم، وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخير البرية أنه فوق العرش، كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم، وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيا أو ذاهبا في الجهات إلى غير غاية، وإما أن يكون منقسما أو جوهرا فردا؛ كل ذلك باطل؛ لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسما، أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فلا يلزم شيء من هذه اللوازم.

[ ص: 739 ] وقالوا: هذه اللوازم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال، وباب الربوبية لا يجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة الكتاب.

ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم: إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين وإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر، وإما أن يكون مباينا عنه بالجهة، فقالوا: ليس بكذا ولا كذا، فنفوا الطريقين جميعا، وقالوا: إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس، فقيل لهم: هذا أحقر من الجوهر الفرد، فقالوا في جواب ذلك: إنما يلزم لو كان جسما أو لو كان موصوفا بالحيز والمقدار، [ ص: 740 ] وقالوا: هذا من حكم الوهم والخيال أو من حكم الحس والوهم.

فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين، وأنهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم، وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء، وأنه إن كان كثيرا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض، ويصفهم بالتناقض في ذلك؛ فالنفاة أعظم تناقضا منهم وأعظم مخالفة لما يعلم بالاضطرار في العقل والدين، وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية، ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضا؛ فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين.

التالي السابق


الخدمات العلمية