الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس والثلاثون: أن يقال: هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات؛ فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل؛ فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر؛ وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة التي تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية، وإن كانت مباينته [ ص: 674 ] لهذين أعظم مما يعلم من مباينة المخلوق للمخلوق؛ إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به، وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها؛ فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض، وذلك ممتنع يوضح ذلك .

الوجه السابع والثلاثون: وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة، وهي ضد المماثلة، وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك؛ فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر، وهذا فيه رفع الاتحاد وإثبات مخالفة، وكذلك اختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة، وهو إن كان قد قال إن المباينة يعنى بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة، وقد ذكر أنها في المعنى الأول أظهر فإنها تستلزم الاختلاف في الحقيقة حيث كانت؛ فإن الشيئين المتماثلين لا يتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لابد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وأن يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر؛ فإن زمان هذا غير زمان الآخر؛ ولهذا يقال المباينة تكون [ ص: 675 ] بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة.

والمقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة، فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه، فيكون مباينا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها، فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها، وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهوره وبطونه؛ فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو مباين لها بصفاته سبحانه وتعالى يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيها لله عن مماثلة الخلق من نفاتها؛ لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الأعدام متماثلة، وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية؛ فكل من كان أعظم إثباتا لما توجبه أسماء الله وصفاته كان رفعه المماثلة عن الله أعظم، وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهة هم الذين جعلوا له أمثالا وأندادا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية