الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الخامس: قوله: الأحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله مختصا بجهة فوق، ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار، ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات.

يقال له: الذي اتفق عليه أهل الإثبات أن الله فوق العالم، ويمتنع أن لا يكون فوق العالم سواء قدر أنه في التحت أو غير [ ص: 612 ] ذلك، بل كون الله تعالى هو العلي الأعلى المتعالي فوق العالم أمر واجب، ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع، فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب، ونقيض هذا العلم ممتنع، هذا هو الذي اتفق عليه أهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الفطر السليمة المقرة بالصانع.

وأما ما ذكره من قول القائل يجب أن يكون مختصا بجهة فوق، ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز فهؤلاء يريدون بذلك أنه يجب أن يكون فوقنا ويمتنع أن يكون تحتنا أو عن يميننا أو عن شمائلنا، وهم لا يعنون بذلك أنه يكون متصلا برؤوسنا بل يعنون أنه فوق الخالق، فالعبد يتوجه إليه هناك لا يتوجه إليه من تحت رجليه أو عن يمينه أو عن شماله، وقد قلنا إن الجهة فيها معنى الإضافة، فالعبد يتوجه إلى ربه بقلبه إلى جهة العلو لا إلى جهة السفل واليمين واليسار، كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى: عن إبليس: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [الأعراف 17]، قال: ولم يقل: من فوقهم؛ لأنه علم أن الله من فوقهم [ ص: 613 ] وهم لا يريدون بذلك أنه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت، بل ليس هو فيما على رأس العبد من الأجسام، ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله، فهذه الأجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب أن يكون الله فيه، وما أعلم أحدا قط يقول إنه يجب أن يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد أو تحته، فالرب يجب عندهم أن يكون فوق العالم، وهي الجهة التي هي فوق، ويجوز أن يكون فوق العالم وغيره بالنسبة إليه سواء. [ ص: 614 ] وأما أن القوم يثبتون وراء العالم أمورا وجودية يقولون: يجب أن يكون الله في واحد منها دون سائرها، فهذا ما علمنا أحدا قاله، وإن قاله أحد تكلم معه بخصوصه، ولا يجعل هذا قول أهل العلم والإيمان الذين يقولون إن الله فوق العرش.

ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة وثابتة لازمة حقيقة، فالأولى هي بحسب الحيوان، فإن كل حيوان له ست جهات: جهة يؤمها هي أمامه، وجهة يخلفها وهي خلفه، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي يساره، وجهة فوقه وجهة تحته. وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته، وليس لها صفة لازمة ثابتة، وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط؛ فالعلو ما فوق العالم والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه.

وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون [ ص: 615 ] فوقه، وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته، وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الإضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية