الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر عزل ولد بكتمر صاحب خلاط وملك بلبان ومسير صاحب ماردين إلى خلاط وعوده

وفي هذه السنة قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر ، وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان ، وكتب أهل خلاط إلى ناصر الدين أرتق بن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق يستدعونه إليها .

وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان صبيا جاهلا ، فقبض على الأمير ( شجاع الدين قتلغ ، مملوك من مماليك شاه أرمن ) ، وهو كان أتابكه ، ومدبر بلاده ، وكان حسن السيرة مع الجند والرعية ، فلما قتله اختلفت الكلمة عليه من الجند والعامة ، واشتغل هو باللهو واللعب وإدمان الشرب ، فكاتب جماعة من عامة خلاط ، وجماعة من جند ناصر الدين ، صاحب ماردين ، يستدعونه إليهم ، وإنما كاتبوه دون غيره من الملوك لأن أباه قطب الدين إيلغازي كان ابن أخت شاه أرمن بن سكمان ، وكان شاه أرمن قد حلف له الناس في حياته لأنه لم يكن له ولد ، فلما تجددت بعده هذه الحادثة تذاكروا تلك الأيمان ، وقالوا : نستدعيه ونملكه ، فإنه من أهل بيت شاه أرمن ، فكاتبوه وطلبوه إليهم .

ثم إن بعض مماليك شاه أرمن ، اسمه بلبان ، وكان قد جاهر ولد بكتمر بالعداوة والعصيان ، سار من خلاط إلى ملازكرد وملكها ، واجتمع الأجناد عليه ، وكثر جمعه ، وسار إلى خلاط فحصرها ، واتفق وصول صاحب ماردين إليها ، وهو يظن أن أحدا لا يمتنع عليه ، ويسلمون إليه المدينة ، فنزل قريبا من خلاط عدة أيام ، فأرسل إليه بلبان يقول له : إن أهل خلاط قد اتهموني بالميل إليك ، وهم ينفرون من العرب ، والرأي أنك ترحل عائدا مرحلة واحدة وتقيم ، فإذا تسلمت البلد سلمته إليك ، لأنني لا يمكنني أن أملكه أنا .

[ ص: 248 ] ففعل صاحب ماردين ذلك ، فلما أبعد عن خلاط أرسل إليه يقول له : تعود إلى بلدك ، وإلا جئت إليك وأوقعت بك وبمن معك . وكان في قلة من الجيش ، فعاد إلى ماردين .

وكان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ، صاحب حران وديار الجزيرة ، قد أرسل إلى صاحب ماردين ، لما سمع أنه يريد قصد خلاط ، يقول له : إن سرت إلى خلاط قصدت بلدك ، وإنما خاف أن يملك خلاط فيقوى عليهم ، فلما سار إلى خلاط جمع الأشرف العساكر وسار إلى ولاية ماردين ، فأخذ دخلها ، وأقام بدنيسر يجبي الأموال إليه ، فلما فرغ منه عاد إلى حران ، فكان مثل صاحب ماردين كما قيل : خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين .

وأما بلبان فإنه جمع العسكر وحشد ، وحصر خلاط وضيق على أهلها ، وبها ولد بكتمر ، فجمع من عنده بالبلد من الأجناد والعامة ، وخرج إليه ، فالتقوا ، فانهزم بلبان ومن معه من بين يديه ، وعاد إلى الذي بيده من البلاد ، وهو : ملازكرد وأرجيش وغيرهما من الحصون ، وجمع العساكر ، واستكثر منها ، وعاود حصار خلاط وضيق على أهلها ، فاضطرهم إلى خذلان ولد بكتمر لصغره ، وجهله بالملك ، واشتغاله بلهوه ولعبه ، ثم قبضوا عليه في القلعة ، وأرسلوا إلى بلبان وحلفوه على ما أرادوا ، وسلموا إليه البلد وابن بكتمر ، واستولى على جميع أعمال خلاط ، وسجن ابن بكتمر في قلعة هناك ، واستقر ملكه ، فسبحان من إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ; بالأمس يقصدها شمس الدين محمد البهلوان وصلاح الدين يوسف بن أيوب فلم يقدر أحدهما عليها ، والآن يظهر هذا المملوك العاجز ، القاصر عن الرجال والبلاد والأموال ، فيملكها صفوا عفوا .

ثم إن نجم الدين أيوب بن العادل ، صاحب ميافارقين ، سار نحو ولاية خلاط وكان قد استولى [ على ] عدة حصون من أعمالها منها : حصن موسى ومدينته ، فلما قارب خلاط أظهر له بلبان العجز عن مقابلته ، فطمع ، وأوغل في القرب ، فأخذ عليه بلبان الطريق وقاتله فهزمه ، ولم يفلت من أصحابه إلا القليل وهم جرحى ، وعاد إلى ميافارقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية