الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك جلال الدين أذربيجان .

في هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان ، وسبب ذلك أنه لما سار من دقوقا كما ذكرناه ، قصد كل مراغة فملكها وأقام بها ، وشرع في عمارة البلد ، فاستحسنه ، فلما وصل إليها ، أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيسي ، وهو خال أخيه غياث الدين ، قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين .

وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكرا كثيرا يبلغون خمسة آلاف فارس . ونهب كثيرا من أذربيجان ، وسار إلى البحر من بلد أران ، فشتى هنالك لقلة البرد ، [ ص: 394 ] ولما عاد إلى همذان ، نهب أذربيجان أيضا مرة ثانية .

وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان ، وأقطعه إياها وغيرها ، فسار ليستولي عليها كما أمر ، فلما سمع جلال الدين بذلك ، سار جريدة إليه ، فوصل إلى إيغان طائيسي ليلا ، وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل وبغال ، وحمير وبقر ، وغنم . فلما وصل جلال الدين ، أحاط بالجميع ، فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان ، علموا أنه جلال الدين ، فسقط في أيديهم ; لأنهم كانوا يظنونه عند دقوقا ، فأرسل إيغان طائيسي زوجته ، وهي أخت جلال الدين ، تطلب له الأمان ، فأمنه وأحضره عنده ، وانضاف عسكره إلى عسكر جلال الدين ، وبقي إيغان طائيسي وحده إلى أن أضاف إليه جلال الدين عسكرا غير عسكره ، وعاد إلى مراغة ، وأعجبه المقام بها .

وكان أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران ، قد سار من تبريز إلى كنجة خوفا من جلال الدين ، وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم أن يتردد عسكره إليهم يمتارون ، فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه ، فتردد العسكر إليها ، وباعوا واشتروا الأقوات والكسوات وغيرها ، ومدوا أيديهم إلى أموال الناس ، فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد ، فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم ، فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم ، وأمره أن يقيم بتبريز ، ويكف أيدي الجند عن أهلها ، ومن تعدى على أحد منهم صلبه .

فأقام الشحنة ، ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس ، وكانت زوجة أوزبك ، وهي ابنة السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه ، مقيمة بتبريز ، وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها ، وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب .

ثم إن أهل تبريز شكوا من الشحنة ، وقالوا : إنه يكلفنا أكثر من طاقتنا ، فأمر جلال الدين أنه لا يعطى إلا ما يقيم به لا غير ، ففعلوا ذلك ، وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام ، وقاتل أهلها قتالا شديدا ، وزحف إليها فوصل العسكر إلى [ ص: 395 ] السور ، فأذعن أهلها بالطاعة ، وأرسلوا يطلبون الأمان منه ; لأنه كان يذمهم ، ويقول : قتلوا أصحابنا المسلمين ، وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار ، وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة ، فخافوا منه لذلك ، فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم ، فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وإنما فعله صاحبهم ، ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه ، فعذرهم ، وأمنهم ، وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك ، ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان ، وهو مدينة خوي وغيرها من ملك ومال وغيره ، فأجابهم إلى ذلك .

وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة ، وسير زوجة أوزبك إلى خوي ، ومعها طائفة من العسكر ، مع رجل كبير القدر ، عظيم المنزلة ، وأمرهم بخدمتها ، فإذا وصلت إلى خوي عادوا عنها .

ولما رحل جلال الدين إلى تبريز ، أمر أن لا يمنعوا عنه أحدا من أهلها ، فأتاه الناس مسلمين عليه ، فلم يحجبوا عنه ، وأحسن إليهم ، وبث فيهم العدل ، ووعدهم الإحسان والزيادة منه ، وقال لهم : قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خرابا ، وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم ، وعمارة بلادكم .

وأقام إلى يوم الجمعة ، فحضر الجامع ، فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة ، قام قائما ، ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس .

ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره ، وأخرج عليه من الأموال كثيرا ، فهو في غاية الحسن ، مشرف على البساتين ، فلما طاف فيه ، خرج منه وقال : هذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا . وأقام أياما استولى فيها على غيرها من البلاد ، وسير الجيوش إلى بلاد الكرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية