الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولهذا ذكر علماء الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية، وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم، بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي إدراك نهايته ونفي الإحاطة به، كما قال تعالى: لا تدركه الأبصار [الأنعام 103] .

وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أفكلها ترى؟ قال: لا، قال: فالله [ ص: 785 ] أكبر. وكذلك قوله: ولا يحيطون به علما [طه 110] سواء كان الضمير عائدا على الله أو على ما بين أيديهم، فإن ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وغير ذلك، وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره.

[ ص: 786 ] وقد قال سبحانه: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر 67] فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوي السماء بيمينه، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن [ ص: 787 ] مسعود كلها في الصحيحين، ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان، وقال أيضا في الآية الأخرى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [الأنعام 91] فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد، والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة، وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين؛ فإنهم يقدرون الله حق [ ص: 788 ] قدره فلا يقبض عندهم أرضا ولا يطوي السماء بيمينه، بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم، وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان، فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني، وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر، لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم؛ فإن الكلام إنما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين.

وقد قال في الآية الأخرى: وأن إلى ربك المنتهى [النجم 42] .

وقال : إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [الانشقاق 6] .

وقال : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام 62] .

وقال : ألا إلى الله تصير الأمور [الشورى 53] وإذا كان منتهى المخلوقات إليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهى إليها؛ امتنع أن يكون بحيث لا ينتهى إليه ولا يكون غاية، وما لا يوصف بالنهاية لا ينتهى إليه أصلا؛ فإنه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه، ثم ينتهي [ ص: 789 ] إليه، بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية، فإنه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد، لاسيما الاتحادية، منهم من يقول إنه في كل مكان، كما لا يتصور عندهم أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء، وليس هذا موضع تقرير ذلك.

وإنما الغرض هنا أن قوله: الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين: أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف، ما يعرف إطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلا، إلا إذا كان معدوما أو كان ذاهبا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية