الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع عشر : خطاب الواحد بلفظ الجمع . كقوله - تعالى - : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( المؤمنون : 51 ) إلى قوله : فذرهم في غمرتهم حتى حين ( المؤمنون : 54 ) فهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، إذ لا نبي معه قبله ولا بعده . وقوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( النحل : 126 ) خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم ؛ بدليل قوله : واصبر وما صبرك إلا بالله ( النحل : 127 ) الآية .

وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ( النور : 22 ) الآية ؛ خاطب بذلك أبا بكر الصديق لما حرم مسطحا رفده حين تكلم في حديث الإفك .

وقوله - تعالى - : فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا ( هود : 14 ) والمخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، لقوله : قل فأتوا ( هود : 13 ) .

وقوله - تعالى - : ففررت منكم لما خفتكم ( الشعراء : 21 ) .

وجعل منه بعضهم قوله - تعالى - : قال رب ارجعون ( المؤمنون : 99 ) ؛ أي ارجعني ؛ وإنما خاطب الواحد المعظم بذلك ، لأنه يقول : نحن فعلنا ، فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب .

وقيل : ( رب ) استغاثة و ( ارجعون ) خطاب الملائكة ، فيكون التفاتا أو جمعا لتكرار [ ص: 362 ] القول ؛ كما قال : " قفا نبك " . وقال السهيلي : هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب ، فاختلط ولا يدري ما يقول من الشطط ، وقد اعتاد أمرا يقوله في الحياة ، من رد الأمر إلى المخلوقين .

ومنه قوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ( الزخرف : 32 ) الآية ، وهذا مما لا تشريك فيه .

وقال المبرد في الكامل : لا ينبغي أن يستعمل ضمير الجمع في واحد من المخلوقين على حكم الاستلزام ؛ لأن ذلك كبر ، وهو مختص به - سبحانه .

ومن هذا ما حكاه الحريري في شرح " الملحة " عن بعضهم أنه منع من إطلاق لفظة " نحن " على غير الله - تعالى - من المخلوقين ، لما فيها من التعظيم ، وهو غريب . وحكى بعضهم خلافا في نون الجمع الواردة في كلامه - سبحانه وتعالى ، فقيل : جاءت للعظمة يوصف بها - سبحانه ، وليس لمخلوق أن ينازعه فيها ؛ فعلى هذا القول يكره للملوك استعمالها في قولهم : نحن نفعل كذا ، وقيل في علتها : إنها كانت تصاريف أقضيته تجري على أيدي خلقه تنزل أفعالهم منزلة فعله ، فلذلك ورد الكلام مورد الجمع ، فعلى هذا تجوز مباشرة النون لكل من لا يباشر بنفسه .

فأما قول العالم : نحن نبين ، ونحن نشرح ، فمسموح له فيه ؛ لأنه يخبر بنون الجمع عن نفسه وأهل مقالته .

[ ص: 363 ] وقوله - تعالى - : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( الأنعام : 130 ) والمراد الإنس ؛ لأن الرسل لا تكون إلا من بني آدم . وحكى بعضهم فيه الإجماع ، لكن عن الضحاك أن من الجن رسولا اسمه يوسف ، لقوله - تعالى - : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( فاطر : 24 ) واحتج الجمهور بقوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ( الأنعام : 9 ) ليحصل الاستئناس ، وذلك مفقود في الجن ، وبقوله - تعالى - : إن الله اصطفى آدم ونوحا ( آل عمران : 33 ) الآية ، وأجمعوا أن المراد بالاصطفاء النبوة .

وأجيب عن تمسك الضحاك بالآية بأن البعضية صادقة بكون الرسل من بني آدم ، ولا يلزم إثبات رسل من الجن بطريق إثبات نفر من الجن يستمعون القرآن من رسل الإنس ، ويبلغونه إلى قومهم ، وينذرونهم ، ويصدق على أولئك النفر من حيث إنهم رسل الرسل . وقد سمى الله رسل عيسى بذلك حيث قال : إذ أرسلنا إليهم اثنين ( يس : 14 ) .

وفي " تفسير القرآن " لقوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي قال قوم : من الجن رسل ، للآية .

وقال الأكثرون : الرسل من الإنس ، ويجئ من الجن ، كقوله في قصة بلقيس : فناظرة بم يرجع المرسلون ( النمل : 35 ) والمراد به واحد ؛ بدليل قوله : ارجع إليهم ( النمل : 37 ) وفيه نظر ، من جهة أنه يحتمل أن يكون الخطاب لرئيسهم ؛ فإن العادة جارية لا سيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا ، وقرأ ابن مسعود : ( ارجعوا إليهم ) أراد الرسول ومن معه .

[ ص: 364 ] وقوله : أولئك مبرءون مما يقولون ( النور : 26 ) يعني عائشة وصفوان .

وقوله - تعالى - : كذبت قوم نوح المرسلين ( الشعراء : 105 ) والمراد بالمرسلين : نوح ، كقولك : فلان يركب الدواب ويلبس البرود ، وما له إلا دابة وبرد . قاله الزمخشري .

وقوله - تعالى - : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ( التوبة : 66 ) قال قتادة : هذا رجل كان لا يمالئهم على ما كانوا يقولون في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسماه الله - سبحانه وتعالى - طائفة . وقال البخاري : ويسمى الرجل طائفة .

وقوله : لا بيع فيه ولا خلال ( إبراهيم : 31 ) والمراد " خلة " ؛ بدليل الآية الأخرى ( البقرة : 254 ) والموجب للجمع مناسبة رءوس الآي .

فائدة

وأما قوله - تعالى - : واجعلنا للمتقين إماما ( الفرقان : 74 ) فجوز الفارسي فيه تقديرين : أحدهما : أن " إماما " هنا جمع ، لأنه المفعول الثاني لجعل ، والمفعول الأول جمع ، والثاني هو الأول ، فوجب أن يكون جمعا ، وواحده " آم " لأنه قد سمع هذا في واحده ، قال - تعالى - : ولا آمين البيت الحرام ( المائدة : 2 ) فهذا جمع " آم " مسلما وقياسه على حد قيام وقائم ، فأما أئمة فجمع إمام الذي هو مقدر على حد عنان وأعنة ، وسنان وأسنة ، والأصل أيمة ، فقلبت الياء .

والثاني : أنه جمع لإمام ؛ لأن المعنى أئمة ، فيكون إمام على هذا واحدا ، وجمعه أئمة .

وقال ابن الضائع : قيدت عن شيخنا الشلوبين فيه احتمالين غير هذين : أن يكون [ ص: 365 ] مصدرا كالإمام ، وأن يكون من الصفات المجراة مجرى المصادر في ترك التثنية والجمع كحسب . ويحتمل أن يكون محمولا على المعنى ، كقولهم : دخلنا على الأمير وكسانا حلة ، والمراد كل واحد حلة ، وكذلك هو و " اجعل كل واحد منا إماما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية