الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( أو فلان من أهل الجنة )

                                                                                                                            ش : ليس هذا [ ص: 72 ] من أمثلة ما لا يعلم حالا ويعلم مآلا وإنما هو من أمثلة ما لا يعلم حالا ومآلا كما قاله في التوضيح وكان الأنسب ذكره هناك ( فروع . الأول ) قال في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق ، وقال مالك في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة إنها طالق ساعته إذ قال ابن القاسم : وإن لم أدخل الجنة مثله قال ابن رشد : ساوى ابن القاسم بين أن يحلف أنه من أهل الجنة أو يحلف ليدخلن الجنة ومثله لمالك في المبسوط إذا حلف على ذلك حتما ، وقال الليث بن سعد : لا شيء عليه وإليه ذهب ابن وهب ولا يخلو الحالف على هذا من أن يريد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يدخلون النار أو من أهل الجنة الذين لا يخلدون أو لا نية له فأما إن أراد أنه من الذين لا يدخلون النار فتعجيل الطلاق عليه بين ظاهر وذكر وجه ظهوره ثم قال في آخر كلامه : فلا ينبغي أن يختلف في هذا الوجه وأما إن أراد أنه من الذين لا يخلدون فالمعنى في يمينه أنه لا يكفر بعد أيمانه فالحالف على هذا حالف على ما أمر به من الثبوت على الإسلام فهذا بين أنه لا شيء عليه ; لأنه إنما هو حالف على أنه لا يكفر فلا ينبغي أن يختلف في هذا أيضا وأما إن لم تكن له نية فالظاهر من مذهب مالك وابن القاسم أن يمينه تحمل على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق والأظهر أن يفرق بين اللفظين فيحمل قوله إن لم يكن من أهل الجنة على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق ويحمل قوله إن لم أدخل الجنة على الوجه الثاني فلا يكون عليه شيء وقول الليث وابن وهب بناء على حمل قوله على الوجه الثاني ولا يتأول عليهما أنهما حملاه على الوجه الأول ولم يوجبا طلاقه ; لأنه خروج إلى الإرجاء ، انتهى .

                                                                                                                            ( فائدة ) نقل ابن عرفة إثر نقله هذه المسألة أن ابن سحنون يقول : إخبار المرء عن إيمان نفسه جزم فقط وابن عبدوس يجيز تقييده بإن شاء الله ثم قال وفي الإخبار عمن سمع لفظ إيمانه بأنه مؤمن عند الله مطلقا أو بقيد قوله إن وافقت سريرته علانيته قولا ابن التبان والشيخ ، انتهى . وقال في أوائل كتاب الجامع من الذخيرة مسألة ، قال ابن أبي زيد في جامع المختصر قيل لمالك أقول أنا مؤمن والله محمود أو إن شاء الله ، فقال : قل مؤمن ولا تقل معها غيرها معناه لا تقل إن شاء الله وهذه مسألة خلاف بين العلماء ، قال الأشعري والشافعي وغيرهما : يجوز إن شاء الله ، وقال أبو حنيفة وغيره : لا يجوز لأن الإيمان يجب فيه الجزم ولا جزم مع التعليق ، وقال غيرهم : بل يجوز لأحد وجوه إما أن يريد المستقبل وهو مجهول حصول الإيمان فيه أو يريد يقع الإيمان الحاضر في المستقبل وهو مجهول الحصول أو يكون للتبرك لا للتعليق ، انتهى .

                                                                                                                            الثاني ، قال البرزلي في مسائل الأيمان : وسئل أبو القاسم الغبريني عمن حلف بالطلاق ما يموت إلا على الإسلام إدلالا على كرم الكريم هل يكون عليه شيء أم لا جوابها إذا كان مراده بذلك أنه لا يكفر بعد إيمانه ولا ينتقل عن إسلامه فهذا بين أنه لا شيء عليه ; لأنه إنما حلف أن يثبت على إسلامه البرزلي وسكت عن مراده إن قصد حسن الخاتمة أو دخول الجنة وعندي أنها تجري على مسألة من حلف أنه من أهل الجنة والمشهور الحنث وقيل لا حنث عليه ومنهم من يفرق بين أن يستدل عليه ويثبت له دليل بالأحاديث مثل حلفه على عمر بن عبد العزيز أنه من أهل الجنة فلا يلزمه يمين وإلا لزمه الحنث لأن العلماء أجمعوا على عدالته ورأيت في بعض كتب التصوف أن بعض أمراء بني العباس حلف أنه يدخل الجنة فاستفتى الفقهاء فأفتوه بالحنث إلا رجلا منهم ، قال له : عرض لك معصية قط وتركتها لوجه الله ، قال : نعم واعدت امرأة لأفعل بها فلما تحصلت لي وهممت بالفعل خفت من الله وتركت شهوتي ، فقال : لا حنث عليك لقوله تعالى { : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } ورأيت فيه أيضا في رجل صعد لشجرة عريانا فحلف آخر أنك لا تنزل إلا [ ص: 73 ] مستورا ولا يمد أحد إليك لباسا فأفتوه بالحنث إلا رجلا منهم ، قال له : انزل بالليل ولا حنث على الحالف لقوله تعالى { : وجعلنا الليل لباسا } ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا جار على مذهب أهل العراق الذين يراعون ظواهر الألفاظ لا المقاصد والآتي على مذهب مالك رحمه الله حنثه إلا أن يدل سياق على ما قال : وعكس هذه المسألة إذا حلف أن الحجاج من أهل النار فاختلف فيها أيضا ; لأنه من أهل القبلة وقد رأيت بعض الفقهاء أفتاه بعدم الحنث ، وقال : إن كان هذا حانثا فجنايته أقل من جناية الحجاج ومع ذلك رجي له النجاة وإن كان صادقا فقد وافق ونزلت قضية وهي أن رجلا حلف بالثلاث أن تبارك الملك تجادل عنه فاستفتى بعض أصحابنا ، فقال : تطلق عليه لأن هذا مظنون وقلت أنا لا حنث عليه لوجوه منها أنه حلف على أنها تجادل عنه وهذا من العمليات ونص الأصوليون على أن العمل بخبر الآحاد قطعي بخلاف ما لو حلف على أن هذا الحديث صحيح وخبر الآحاد مظنون غير مقطوع به ومنها أن هذا الحديث ثبت في الموطإ وحكى في المدارك عن بعض عدول المحدثين أنه إذا حلف الإنسان أن كل ما وقع في الموطإ صحيح فإنه لا يحنث ومنها أن الأحكام مبنية على غلبة الظنون واحتج من خالف بأن من قال : تجادل عن صاحبها وكيف يعرف أنه من أصحابها فأجبته إذا ثبت له وصف الصحبة المذكورة في أصحابه صلى الله عليه وسلم على أكمل وجوه ما قيل فيها من كثرة الملازمة لقراءتها وتحصيل ما أوجب ثلوج صدره بأنه كذلك وهو مستفت وكذا وقع السؤال هل الحجاج أعظم معصية من الزمخشري أو بالعكس فوقع الجواب أن على القول بأن مذهبه يقود إلى الكفر فهو أعظم وإن قلنا يقود إلى الفسق فيقع التردد في الترجيح لأن معصية الزمخشري مما يرجع إلى الذات الإلهية ومعصية الحجاج بالجوارح لكنها تتعلق بحق المخلوقين وقد قالت عائشة : رضي الله عنها ذنب لا يتركه الله وهو مظالم العباد وذنب لا يعبأ الله به وهو ما بين العبد وبين خالقه وذنب لا يغفره الله وهو الشرك بالله وإن كان في صحة هذا الأثر مقال ذكره عز الدين وكان يتقدم الترجيح أن الحجاج أعظم جرما لأن أفعاله تدل على عدم إيمانه مع كثرته وجراءته على الصحابة والتابعين وخيرة هذه الأمة ، انتهى ، والله أعلم . وما ذكره فيمن حلف على عمر بن عبد العزيز أنه من أهل الجنة ذكره في العتبية في أول سماع عبد الملك بن الحسن في كتاب الأيمان بالطلاق ونصه ، قال عبد الملك وأخبرني غير واحد من المصريين أن ابن القاسم عن رجل ، قال لامرأته : أنت طالق إن لم يكن عمر بن الخطاب في الجنة ، قال ابن القاسم : لا حنث عليه وأخبرني من أثق به عن ابن القاسم في أبي بكر مثل ذلك ، قال ابن الصلت : وسمعت ابن القاسم يقول في عمر بن عبد العزيز مثل ذلك ، قال ابن رشد : أما من حلف بالطلاق أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من أهل الجنة فلا ارتياب في أنه لا حنث عليه وكذلك القول في سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وكذلك من جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيح أنه من أهل الجنة كعبد الله بن سلام فيجوز أن يشهد له بالجنة وأما عمر بن عبد العزيز فتوقف مالك رحمه الله في تحنيث من حلف عليه أنه من أهل الجنة ، وقال : هو إمام هدى وهو رجل صالح ولم يزد على هذا ; لأنه لم يرد فيه نص يقطع العذر ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم التعلق بظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله { إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء } وقوله { أنتم شهداء الله في أرضه من أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار } وقد حصل الإجماع من الأمة على حسن الثناء عليه والإجماع معصوم لقوله { لم تجتمع أمتي على ضلالة } [ ص: 74 ] انتهى .

                                                                                                                            وما ذكره البرزلي عن المدارك فيمن حلف أن كل ما في الموطإ صحيح أنه غير حانث ذكره في مختصرها أيضا ، وقال ابن فرحون في الديباج المذهب لما تكلم على الموطإ وثناء الناس عليه ، قال أبو زرعة : لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث الموطإ التي في الموطإ أنها صحاح كلها لم يحنث ولو حلف على حديث غيره كان حانثا ، انتهى ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية