الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 740 ] وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذين احتجوا به على أن الله تعالى على العرش وما احتجوا به في ذلك من الآيات التي يحتج بها على إثبات الحد، فقال: (باب ذكر الاستواء) فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: إن الله مستو على عرشه، كما قال سبحانه: الرحمن على العرش استوى [طه 5]، وقد قال عز وجل: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر 10] .

وقال : بل رفعه الله إليه [النساء 158] .

وقال : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [السجدة 5] وهذه الآيات هي التي استشهد بها [ ص: 742 ] الإمام أحمد لقول ابن المبارك، وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك؛ فهذا الرازي [ ص: 743 ] وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتها على أن الله متحيز في جهة، وأن له حدا، وقد تقدم تمام قول الأشعري.

قال أيضا: وقد قال تعالى: يخافون ربهم من فوقهم [النحل 50] .

وقال سبحانه: تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج 4] .

وقال سبحانه : ثم استوى إلى السماء [البقرة 29] .

وقال : ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان 59] .

وقال : ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [السجدة 4] وكل هذا يدل على [ ص: 744 ] أنه في السماء مستو على عرشه، قال: والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض؛ فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه.

قال: وقال سبحانه: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر 22] .

وقال عز وجل : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة 210] وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى.

قال: وقال سبحانه : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران 55] .

[ ص: 745 ] وقال سبحانه وتعالى : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [النساء 157-158].

قال: واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء.

وقال: ومن دعا المسلمين جميعا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون: يا ساكن العرش، أو يا من احتجب بالعرش أو بسبع سموات. وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة، وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم تستلزم أن يكون جسما متحيزا.

[ ص: 746 ] قال: وقال عز وجل : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن الشبهة وإدخال الشك على من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، وترك أجناسا لم يعمهم بالآية.

قال: فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون [ ص: 747 ] غيرهم. وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه وتعالى قد يحتجب عن شيء دون شيء، وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش؛ لأن النفاة يقولون: الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام، ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسما، وهو قد احتج بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش.

قال: وقال الله عز وجل: ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام 62] ولو ترى إذ وقفوا على ربهم [الأنعام 30] .

وقال : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم [السجدة 12] .

وقال سبحانه: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [الكهف 48].

[ ص: 748 ] قال: كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه، وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك - زعموا - التنزيه ونفي التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل.

[ ص: 749 ] فاحتجاجه بقوله: ثم ردوا إلى الله [الأنعام 62] وقوله: وقفوا على ربهم [الأنعام 30] وقوله : وعرضوا على ربك [الكهف 48] وقوله: ناكسو رءوسهم عند ربهم [السجدة 12] على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية