الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1937 [ 2821 ] ونحوه عن أم سلمة .

                                                                                              رواه أحمد (6 \ 289) ، ومسلم (2916) (72 و 73) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر -رضي الله عنه - : " تقتلك فئة باغية " ، وفي لفظ آخر : " الفئة الباغية ") هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم على فئة معاوية بالبغي ، فإنهم هم الذين قتلوه ; فإنه كان بعسكر علي بصفين ، وأبلى في القتال بلاء عظيما ، وحرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال معاوية وأصحابه . قال أبو عبد الرحمن السلمي : شهدنا مع علي صفين ، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد يتبعونه كأنه علم لهم ، قال : وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة : يا هاشم تقدم ، الجنة تحت الأبارقة ، اليوم ألقى الأحبة ، محمدا وحزبه ، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ، ثم قال : [ ص: 256 ]

                                                                                              نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقيله
                                                                                              ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله

                                                                                              قال : فلم أر أصحاب محمد قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ ، وقال عبد الرحمن بن أبزى : شهدنا صفين مع علي - رضي الله عنه - في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان ، قتل منهم ثلاثة وستون ، منهم عمار بن ياسر . وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال : ثم حمل عمار بن ياسر فحمل عليه ابن جزء السكسكي ، وأبو الغادية الفزاري ، فأما أبو الغادية فطعنه ، وأما ابن جزء فاحتز رأسه ، وكان سنه وقت قتل نيفا على تسعين سنة ، وكانت صفين في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين ، ودفنه علي - رضي الله عنه - في ثيابه ، ولم يغسله كما فعل بشهداء أحد ، ولما ثبت أن أصحاب معاوية قتلوا عمارا صدق عليهم خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم أنهم البغاة ، وأن عليا - رضي الله عنه - هو الحق ، ووجه ذلك واضح ، وهو أن عليا - رضي الله عنه - أحق بالإمامة من كل من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت من غير نزاع من معاوية ولا من غيره . وقد انعقدت بيعته بأهل الحل والعقد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل دار الهجرة ، فوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته ، وحرمت عليهم مخالفته ، فامتنعوا عن بيعته وعملوا على مخالفته ، وكانوا له ظالمين ، وعن سبيل الحق ناكبين ، فاستحقوا اسم البغي الذي شهد به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة ، فإنها تحريفات عن سنن الحق حائدة . نقل الأخباريون : أن معاوية تأول الخبر تأويلين :

                                                                                              أحدهما : أنه قال بموجب الخبر فقال : نحن الباغية لدم عثمان - رضي الله عنه - أي الطالبة له .

                                                                                              [ ص: 257 ] وثانيهما : أنه قال : إنما قتله من أخرجه للقتل وعرضه له ، وهذان التأويلان فاسدان .

                                                                                              أما بيان فساد الأول : فالبغي - وإن كان أصله الطلب - فقد غلب عرف استعماله في اللغة والشرع على التعدي والفساد ، ولذلك قال اللغويون ، أبو عبيد وغيره : البغي : التعدي . وبغى الرجل على الرجل : استطال عليه . وبغت السماء : اشتد مطرها . وبغى الجرح : ورم وترامى إلى فساد ، وبغى الوالي : ظلم . وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء : بغي . وبرئ جرحه على بغي : وهو أن يبرأ وفيه شيء من نغل ، وعلى هذا فقد صار الحال في البغي كالحال في الصلاة ، والدابة ، وغير ذلك من الأسماء العرفية التي إذا سمعها السامع سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل ، لا الأصلي الذي قد صار كالمطرح ، كما بيناه في الأصول ، وإلى حمل اللفظ على ما قلناه صار عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره يوم قتل عمار ، وأكثر أهل العصر ، ورأوا أن ذلك التأويل تحريف . سلمنا نفي العرف ، وأن لفظ الباغية صالح للطلب وللتعدي ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عمار وذم قاتليه ، ولو كان المقصود البغي الذي هو مجرد الطلب لما أفاد شيئا من ذلك ، وقد أفادهما بدليل مساق الحديث فتأمله بجميع طرقه تجده كذلك ، وأيضا فلو كان ذلك هو المقصود لكان تخصيص قتلة عمار بالبغي الذي هو الطلب ضائعا لا فائدة له ; إذ علي وأصحابه طالبون للحق ولقتلة عثمان ، لو تفرغوا لذلك ، وتمكنوا منه ، وإنما منعهم من ذلك معاوية وأصحابه بما أبدوا من الخلاف ، ومن الاستعجال مع قول علي لهم : ادخلوا فيما دخل فيه الناس ، ونطلب قتلة عثمان ، ونقيم عليهم كتاب الله . فلم يلتفتوا لهذا ولا عرجوا عليه ، ولكن سبقت الأقدار ، وعظمت المصيبة بقتيل الدار .

                                                                                              وأما فساد التأويل الثاني فواضح ; لأنه عدل عمن وجد القتل منه إلى من [ ص: 258 ] لا تصح نسبته إليه ، إذ لم يجبر عمار على الخروج ; بل هو خرج بنفسه وماله مجاهدا في سبيل الله ، قاصدا لقتال من بغى على الإمام الحق ، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك ، وحاش معاوية عن مثل هذا التأويل ، والعهدة على الناقل ، بل قد حكي عن معاوية أنه قال عندما جاءه قاتل عمار برأسه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بشروا قاتل ابن سمية بالنار " . فلما سمع القاتل ذلك قال : بئست البشارة ، وبئست التحفة ، وأنشد في ذلك شعرا ، والله أعلم بحقيقة ما جرى من ذلك ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج : " تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " ، والقاتل لهم هو علي - رضي الله عنه - وأصحابه .

                                                                                              و (قوله : " بؤس ابن سمية ") هو منادى مضاف محذوف حرف النداء ، تقديره : يا بؤس ابن سمية ، وهي أم عمار ، والبأس والبؤس والبأساء : المكروه والضرر ، وفي الرواية الأخرى : " يا ويس ابن سمية " ، وفي البخاري : " يا ويح ابن سمية " ، وكلاهما بمعنى التفجع والترحم . والويل : بمعنى الهلكة ، هذا هو الصحيح ، وقد تقدم الخلاف فيهما .




                                                                                              الخدمات العلمية