الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر معاودة الغز الفتنة بخراسان

كان الأتراك الغزية قد أقاموا ببلخ واستوطنوها ، وتركوا النهب والقتل ببلاد خراسان ، واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان خاقان محمود بن أرسلان ، وكان المتولي لأمور دولته المؤيد أي أبه ، وعن رأيه يصدر محمود .

فلما كان هذه السنة في شعبان سار الغز من بلخ إلى مرو ، وكان السلطان محمود بسرخس في العساكر ، فسار المؤيد في طائفة من العسكر إليهم ، فأوقع بطائفة منهم ، وظفر بهم ، ولم يزل يتبعهم إلى أن دخلوا إلى مرو أوائل رمضان ، وغنم من أموالهم ، وقتل كثيرا وعاد إلى سرخس ، فاتفق هو والسلطان محمود على قصد الغز وقتالهم ، فجمعا العساكر وحشدا ، وسارا إلى الغز ، فالتقوا سادس شوال من هذه السنة ، وجرت بينهم حرب طال مداها ، فبقوا يقتتلون [ من ] يوم الإثنين تاسع شوال إلى نصف الليل من ليلة الأربعاء الحادي عشر من الشهر ، تواقعوا عدة وقعات متتابعة ، ولم يكن بينهم راحة ، ولا نزول ، إلا لما لا بد منه ; انهزم الغز فيها ثلاث دفعات ، وعادوا إلى الحرب .

فلما أسفر الصبح يوم الأربعاء انكشفت الحرب عن هزيمة عساكر خراسان وتفرقهم في البلاد ، وظفر الغز بهم ، وقتلوا فأكثروا فيهم ، وأما الجرحى والأسرى فأكثر من ذلك .

[ ص: 249 ] وعاد المؤيد ومن سلم معه إلى طوس ، فاستولى الغز على مرو ، وأحسنوا السيرة ، وأكرموا العلماء والأئمة مثل تاج الدين أبي سعيد السمعاني ، وشيخ الإسلام علي البلخي وغيرهما ; وأغاروا على سرخس ، وخربت القرى ، وجلا أهلها ، وقتل من أهل سرخس نحو عشرة آلاف قتيل ، ونهبوا طوس أيضا وقتلوا أهلها إلا القليل وعادوا إلى مرو .

وأما السلطان محمود بن محمد الخان والعساكر التي معه فلم يقدروا على المقام بخراسان من الغز ، فساروا إلى جرجان ينتظرون ما يكون من الغز ; فلما دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أرسل الغز إلى السلطان محمود يسألونه أن يحضر عندهم ليملكوه أمرهم ، فلم يثق بهم وخافهم على نفسه ، فأرسلوا يطلبون منه أن يرسل ابنه جلال الدين محمدا إليهم ليملكوه أمرهم ، ويصدروا عن أمره ونهيه في قليل الأمور وكثيرها ، وترددت الرسل واحتاط السلطان محمود لولده بالعهد والمواثيق ، وتقرير القواعد ، ثم سيره من جرجان إلى خراسان ، فلما سمع الأمراء الغزية بقدومه ساروا من مرو إلى طريقه ، فالتقوه بنيسابور ، وأكرموه وعظموه ، ودخل نيسابور ، واتصلت به العساكر الغزية ، واجتمعوا عنده في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة .

ثم إن السلطان محمودا سار من جرجان إلى خراسان في الجيوش التي معه من الأمراء السنجرية ، وتخلف عنه المؤيد أي أبه ، فوصل إلى حدود نسا وأبيورد ، وأقطع نسا لأمير اسمه عمر بن حمزة النسوي ، فقام في حفظها المقام المرضي ، ومنع عنها أيدي المفسدين ، وأقام السلطان محمود بظاهر نسا حتى جمادى الآخرة من السنة .

ولما كان الغز بنيسابور هذه السنة أرسلوا إلى أهل طوس يدعونهم إلى الطاعة والموافقة ، فامتنع أهل رايكان من إجابتهم إلى ذلك ، واغتروا بسور بلدهم وبما عندهم من الشجاعة والقوة والعدة الوافرة والذخائر الكثيرة ، فقصدها طائفة من الغز [ ص: 250 ] وحصروهم ، وملكوا البلد ، وقتلوا فيهم ونهبوا وأكثروا ، ثم عادوا إلى نيسابور ، وساروا مع جلال الدين محمد ابن السلطان محمود الخان إلى بيهق ، وحصروا سابزوار سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، فامتنع أهلها عليهم وقام بأمرهم النقيب عماد الدين علي بن محمد بن يحيى العلوي الحسيني ، نقيب العلويين ، واجتمعوا معه ، ورجعوا إلى أمره ونهيه ، ووقفوا عند إشارته ، فامتنعوا على الغز ، وحفظوا البلد منهم ، وصبروا على القتال .

فلما رأى الغز امتناعهم عليهم وقوتهم أرسلوا إليهم يطلبون الصلح ، فاصطلحوا ، ولم يقتل من أهل سابزوار في تلك الحروب غير رجل واحد ، ورحل الملك جلال الدين والغز عن سابزوار في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، وساروا إلى نسا وأبيورد .

التالي السابق


الخدمات العلمية