الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة السودان بمصر

في هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة ، وهو خصي كان بقصر العاضد ، إليه الحكم فيه ، والتقدم على جميع من يحويه ، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد ، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه ، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به ، وأقاموا ينتظرون جوابه ، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء ، فلقيه إنسان تركماني ، فرأى ( معه ) نعلين جديدين ، فأخذهما منه ، وقال في نفسه : لو كانا مما يلبسه هذا الرجل ( لكانا خلقين ، [ ص: 346 ] فإنه ) رث الهيئة ، وارتاب به وبهما ، فأتى بهما صلاح الدين ففتقهما ، فرأى الكتاب فيهما ، فقرأه وسكت عليه .

وكان مقصود مؤتمن الخلافة أن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية ، فإذا وصلوا إليها خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم ، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم ، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين ، فيأتونه من وراء ظهره ، والفرنج من بين يديه ، فلا يبقى لهم باقية ، فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه ، فقيل : رجل يهودي ، فأحضر ، فأمر بضربه وتقريره ، فابتدأ وأسلم ، وأخبره الخبر ، وأخفى صلاح الدين الحال .

واستشعر مؤتمن الخلافة فلازم القصر ولم يخرج منه خوفا ، وإذا خرج لم يبعد [ وصلاح الدين ] لا يظهر له شيئا من الطلب ; لئلا ينكر ذلك ، فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزه ، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة ، فأخذوه ، وقتلوه ، وأتوه برأسه ، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة ، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش ، وهو خصي أبيض ، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه ، فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة حمية ، ولأنه كان يتعصب لهم ، فحشدوا وجمعوا ، فزادت عدتهم على خمسين ألفا ، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية ، فاجتمع العسكر أيضا ، وقاتلوهم بين القصرين .

وكثر القتل في الفريقين ، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة ، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم ، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين ، فركبهم السيف ، وأخذت عليهم أفواه السكك ، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل ، فأجيبوا إلى ذلك ، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة ، فعبر إليهم شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر ، فأبادهم بالسيف ، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد ، وكفى الله تعالى شرهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية