قال: وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلا مخترعا له.
وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات، ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات؛ لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع.
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [سورة الأعراف: 185].
وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع [ ص: 327 ] سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى.
وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [سورة النبأ: 6-7] إلى قوله: وجنات ألفافا [سورة النبأ: 16].
ومثل قوله تعالى: تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [سورة الفرقان: 61]، إلى قوله: أو أراد شكورا [سورة الفرقان: 62]. [ ص: 328 ]
ومثل قوله: فلينظر الإنسان إلى طعامه الآيات [سورة عبس: 24]. ومثل هذا كثير في القرآن.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق [سورة الطارق: 6].
ومثل قوله: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [سورة الغاشية: 17] الآية.
ومثل قوله تعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا [سورة الحج: 73].
ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا [سورة الأنعام: 79]، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا، بل هي الأكثر، مثل قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم [سورة البقرة: 21] [ ص: 329 ] ، إلى قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [سورة البقرة: 22].
وذلك أن قوله: الذي خلقكم والذين من قبلكم [سورة البقرة: 21]، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء [سورة البقرة: 22]، تنبيه على دلالة العناية.
ومثله قوله: وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [سورة يس: 33].
وقوله: ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [سورة آل عمران: 191].
وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة.
قال: [ ص: 330 ] فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى.
وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم إلى قوله: قالوا بلى شهدنا [سورة الأعراف: 172].
ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى، في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بربوبيته، مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له.
كما قال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [سورة آل عمران: 18].
قال: ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [سورة الإسراء: 44].
قلت: في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه.
وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين. [ ص: 331 ]
وقوله: (إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع) وغير ذلك -كلام ليس هذا موضعه، بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع، ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره.
قال: فقد بان من هذه الأدلة أن الدلالة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع.
قال: وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما: طريقة الخواص، ويعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور. وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل: أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس. وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان، هو قريب من عشرة آلاف منفعة. [ ص: 332 ]
قال: (وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه، فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعها، فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعا موجودا.
ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط.
وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات، بل ينسب ما [ ص: 333 ] رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته).