الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه، ونحو ذلك من العبارات، يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية.

وهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل، كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم. بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم: إما إرشادا إلى الدليل العقلي، وإما إخبارا بالحق الواقع.

وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه، كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله.

ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير اكتساب منه، وإن [ ص: 29 ] كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر. فلا يمكن العالم العارف، بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل، أن يدفع ذلك عن قلبه، اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم. وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان.

وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان، سواء حصل بسبب من العبد، كنظره واستدلاله، أو بسبب من غيره، أو بدون ذلك، هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره، وهي من نعمة الله على عبده، فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات. فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله -كما تقوله القدرية- كان ضالا. وهذا هو الذي أبطله هؤلاء.

وقولهم: إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة، كلام صحيح. والشرط له مدخل في حصول المشروط به، كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها.

والعقل قد يراد به الغريزة، وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان؛ ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك.

وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقلة بالآثار، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر، وله موانع تمنع حكمه، كما أن الشمس سبب في الشعاع، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به، وله مانع كالسحاب والسقف. [ ص: 30 ]

والله خالق الأسباب كلها، ودافع الموانع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له».

كما قال تعالى: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . [سورة الكهف: 17] وقال تعالى: من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . [سورة الأعراف: 128] وقال تعالى: ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه [سورة الإسراء: 97].

ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم، وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك، فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه، وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله.

والقدرية لا يجعلونه من فعل الله، بل يقولون: هو متولد عن نظره، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، والجرح عن الجرح، فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط، كما يقولون في الأمور المباشرة. [ ص: 31 ]

وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات، فلم يجعل للعبد فعلا ولا أثرا في هذا المتولدات، بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم، ولم يجعل للعبد فعلا إلا ما كان في محل قدرته، وهو ما قام ببدنه، دون ما خرج عن ذلك.

والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله. فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة على حصول الشبع.

وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين، اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق للسببين جميعا.

ولهذا كان العبد مثابا على المتولدات، والله تعالى يكتب له بها عملا، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن.

قال تعالى: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح [سورة التوبة: 120] ، فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولدا، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات، وكذلك غير الكافر. [ ص: 32 ]

وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك. ثم قال تعالى: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [سورة التوبة: 121] ، فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه: إلا كتب لهم ولم يقل: به عمل صالح.

وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار وما ينال منهم فهو من المتولدات، فقال فيه: إلا كتب لهم به عمل صالح [سورة التوبة: 120]، فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك، وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار؛ لأنها من أثر عمله.

قال تعالى: ونكتب ما قدموا وآثارهم .

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

وقال في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى [ ص: 33 ] ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».

ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى. كما قال تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [سورة التوبة: 5].

وقال تعالى: إن تنصروا الله ينصركم . [سورة محمد: 7]

وقال: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [سورة الأنفال: 72]. وقال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [سورة التوبة: 14].

فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين، فهذا مبسوط في موضع آخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية