الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصا على الجملة، فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجبا وقوع الحدوث، بمنزلة العلة الموجبة معلولها، وإما أن تكون طبيعة، كما صار إليه الطبائعيون، وباطلا أن يكون جاريا مجرى العلل، فإن العلة توجب معلولها على الاقتران، فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة. فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلا، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم، وقد أقمنا الدلالة على حدثه. وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص، ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي.

ومن زعم أن المخصص طبيعة، فقد أحال فيما قال، فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع، فإن كانت الطبيعة قديمة، فلتقتض قدم العالم، وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص.

قال: وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها، لا على اختيار، فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار، مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات.

قلت: فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وغيرهم.

ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص، فإنه ليس التخصص إلا نوعا من الحوادث، فإنهم لا يريدون بذلك أن كل [ ص: 163 ] تخصيص، سواء كان محدثا أو قديما، لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار، فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل، فلم يبق إلا التخصص الحادث، فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار.

والتخصص الحادث إما أن يكون مساويا للحادث في العموم والخصوص، أو يكون أخص منه، فإن كان مساويا له، كان هذا بمنزلة أن يقال: المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك، وإن كان أخص منه كان استدلالا على أن كل محدث لا بد له من محدث؛ لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث.

ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل، فيكون استدلالا على هذا النوع بالجنس، ثم استدلالا على الجنس بذلك النوع، فيكون استدلالا بالشيء على نفسه.

لكن يقال من جهتهم: التخصص، وإن كان مساويا للحدوث في العموم والخصوص، فجهة كونه تخصيصا غير جهة كونه حدوثا. وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطا بالحدوث، على أنه لا بد له من مخصص.

فيقال: هذا صحيح. لكن عليه سؤالان: أحدهما أن جهة كونه حدوثا أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصا على المخصص. فإنه لو قال لهم قائل: لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص، لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم، لمن قال: لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث. [ ص: 164 ]

وإذا كان قد قال: إن ما جاز تقدمه وتأخره، فإذا وقع وجوده بدلا عن عدمه، قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، فلأن يقال: ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه، أولى وأحرى، فإن العلم بافتقار المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص، وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح.

التالي السابق


الخدمات العلمية