الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 282 ] ثم يقال: الأجسام المتحركة: إما أن تكون -أو شيء منها- واجب الوجود بذاته، وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته.

فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته، بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه، وهو العلة الأولى، لا يمكن أن يتحرك؛ إذ كان على هذا التقدير قد قيل: إن شيئا واجبا بنفسه هو متحرك.

وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركا.

وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه، فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلا مبدعا لها، سواء قيل: إنها قديمة أو حادثة، فإن الممكن لا بد له من فاعل، سواء قيل بقدمه أو حدوثه؛ إذ كان لا يكون بنفسه.

ولو قيل: إنه لا فاعل له ولا مبدع، كان واجبا بنفسه، فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه، وإما أن يكون وجوده بغيره. فالأول هو الممكن بنفسه، والثاني هو الواجب بنفسه.

وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب، بل لا بد من تأخره عنه.

لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك، بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب، مع كونه معلولا موجبا له صادرا عنه، وهم يسمون الواجب علة ومبدعا وفاعلا، وقد يسمونه محدثا، لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم، لئلا [ ص: 283 ] يخالف المسلمين في الظاهر، كما فعل ذلك ابن سينا وغيره.

لكن بكل حال لا بد للممكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه، بل يوجب صفاته وحركاته، لا يكفي في وجوده مجرد وجود محبوبه، بل لا بد من موجب لذاته وصفاته، بل وموجب لنفس حبه.

ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه، لزم احتياجه إلى المحبوب. وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له، الموجب لذاته وصفاته وأفعاله، من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب، بل لمحض كونه محبوبا -فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده.

وهم، وكل عاقل، يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية، ولا بد من علة فاعلية، فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية، لزم كونه مبدعا له، وهو المطلوب، وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم.

وإن لم يجعلوه مبدعا له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم. وقيل لهم: افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته، أبين من افتقاره إلى محبوب له.

قال ثابت بن قرة: وأرسطوطاليس ينكر هذا الرأي المجدد. والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو: أن العالم أبدي، أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه- ظن كاذب.

فيقال له: الذين يظنون هذا يقولون: إن هذا لازم لأرسطو؛ لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له، وإن كان مقارنا لها. بل إنما [ ص: 284 ] أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله، وليس مجرد كون الشيء محبوبا يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبه، فلهذا ألزموه ذلك.

ثم هذا اللازم له: إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله؛ لأنه إذا كان العالم واجبا بنفسه ليس له مبدع، مع كونه مفتقرا إلى محبوب له، كما يقوله أرسطو، لزم كون الواجب بنفسه مفتقرا إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته.

وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم، لم يكن باطلا على هذا القول الذي يلزم أرسطو.

وأيضا فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركا لغيره، فلأن يكون متحركا لنفسه أولى وأحرى، وأرسطو أبطل كون الأول متحركا بحجج تنقض مذهبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية