الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ إبراز أصل الحق قبل القسمة ] .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وإذا طلبوا أن يقسم دارا في أيديهم قلت ثبتوا على أصول حقوقكم لأني لو قسمتها بقولكم ثم رفعت إلى حاكم كان شبيها أن [ ص: 270 ] يجعلها لكم ولعلها لغيركم وقد قيل يقسم ويشهد أنه قسمها على إقرارهم ولا يعجبني لما وصفت " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا كانت دار وهي يدي رجلين ، ترافعا فيها إلى الحاكم ليقسمها بينهما فلهما فيها ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن ينازعهما فيها غيرهما ، فلا يجوز للحاكم إذا حكم بها لهما بأيديهما أن يقسمها بينهما ، مع ظهور المنازع إلا ببينة تشهد بها لهما وهذا مما لا يختلف فيه قوله ، لأن قسمة الحاكم إثبات لملكها ، واليد توجب إثبات التصرف ، ولا توجب إثبات الملك .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يتنازعاها وهي في أيديهما ، ويدعيها كل واحد منهما ملكا ، فيجعلها الحاكم بينهما بأيديهما وإيمانهما ، فلا يجوز أن يقسمها بينهما إن سألاه قسمها : لأن في تنازعهما إقرارا بسقوط القسمة ، فإن تقاسماها بأنفسهما لم يمنعهما .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن لا يكون لهما فيها منازع ، وهما معترفان بالشركة ، ويتنازعان في القسمة ، فإذا سألا الحاكم قسمها بينهما ، كلفهما البينة على ملكهما لها ، فإن أقاماها قسمها بينهما إجبارا أو اختيارا ، وهو غاية ما يستظهر به الحاكم في إثبات الأملاك .

                                                                                                                                            وهكذا لو ظهر لهما منازع فأقاما البينة على ملكهما لها ، حكم لهما ، بالملك ، وأوقع بينهما القسمة وبطل قول المنازع بالبينة ، لأن الملك لا يبطل بالنزاع .

                                                                                                                                            وإن عدما البينة ، وتفردا باليد ، وعدم المنازع وسألاه القسمة ، فقد نص الشافعي فيها على مذهبه أنه لا يجوز أن يقسمهما بينهما مع عدم البينة ويقول لهما : إن شئتما فاقتسماها بينكما ، باختياركما ، ولا أحكم بقسمها بينكما لجواز أن تكون لغيركما ، فتجعلا حكمي بالقسمة حجة لكما في الملك ، ودفع من لعله أحق منكما به .

                                                                                                                                            فإن أقاما البينة بابتياعهما الدار ، لم تكن بينة بالملك ، لأن يد البائع فيها كأيديهما .

                                                                                                                                            وهكذا لو أقاما البينة أنها صارت إليهما عن أبيهما ميراثا لم تكن بينة بالملك ؛ لأن يد الأب فيها كأيديهما .

                                                                                                                                            وسواء كان هذا الملك مما ينقل ويحول ، كالعروض والسلع ، أو مما لا ينقل ولا يحول كالضياع والعقار ، ثم حكى الشافعي بعد ذكره لمذهبه قولا لغيره : أن الحاكم يقسمها بينهما ويذكر [ ص: 271 ] في القسمة أنه قسمها بينهما بإقرارهما ، ليستظهر بذلك مما يخافه من ظهور منازع فيها ، وسواء كان هذا مما ينقل أو لا ينقل وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في تخريج هذا المذهب قولا ثانيا للشافعي .

                                                                                                                                            فذهب بعضهم إلى إبطال تخريجه قولا ثانيا ، لأن الشافعي قد صرح بإبطاله فقال : " ولا يعجبني ذلك لما وصفنا " فلم يجز مع هذا الرد أن يجعل قولا له .

                                                                                                                                            وذهب الأكثرون منهم إلى تخريجه قولا ثانيا ، لأن هذا التعليل ترجيح للأول

                                                                                                                                            وليس بإبطال للثاني ، فيكون له في قسمها بينهما من غير بينة قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يقسمها وهو الأظهر تعليلا بما قدمناه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يقسمها ويستظهر بما وصفناه .

                                                                                                                                            فإذا قسمها على هذا القول استظهر بأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ينادي هل من منازع ؟ ليستدل بعدمه على ظاهر الملك .

                                                                                                                                            والثاني : أن يحلفهما أن لا حق فيها لغيرهما .

                                                                                                                                            وفي هذه اليمين وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها استظهار فإن قسمها من غير إحلافهما جاز .

                                                                                                                                            والثاني : أنها واجبة .

                                                                                                                                            فإن قسمها من غير إحلافهما لم يجز .

                                                                                                                                            فأما أبو حنيفة ، فإنه خالف بتفصيله مطلق القولين ، فقال : فيما ينقل من العروض والسلع أنه يقسمه بينهما بغير بينة ، وفيما لا ينقل من الضياع والعقار إن ادعياه ميراثا لم يقسم إلا ببينة تشهد بالميراث ، وإن ادعياه بابتياع أو غيره قسمه بغير بينة تشهد بالابتياع .

                                                                                                                                            وقد ذكرنا أنه ليس البينة بالميراث والابتياع بينة بالملك ، وإنما هي بينة بسبب دخول اليد ، فلم يكن لهذا الفرق وجه ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية