الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ قسمة ما اختلفت أجزاؤه من الأرض وقسمة التعديل والرد ] .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإذا كان في القسم رد لم يجز حتى يعلم كل واحد منهم موضع سهمه وما يلزمه ويسقط عنه وإذا علمه كما يعلم البيوع التي تجوز أجزأته لا بالقرعة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الأرض المشتركة ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون متساوية الأجزاء ، وهي التي تدخلها قسمة الإجبار ، وقد مضى حكمها ، وذكرنا كيف تقسم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون مختلفة الأجزاء ، فيكون بعضها عامرا ، وبعضها خرابا ، أو بعضها قويا ، وبعضها ضعيفا ، أو يكون في بعضها شجر وبناء ، وليس في الباقي شجر ولا بناء أو يكون في بعضها شجر بلا بناء وفي الباقي بناء بلا شجر أو يكون على بعضها مسيل ماء ، أو طريق " سابل " وليس على الباقي طريق ولا مسيل ، إلى ما جرى هذا المجرى من اختلاف أجزائها به .

                                                                                                                                            فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يمكن تساوي الشريكين بالقسمة في جيده ورديئه ، مثل أن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها ، وإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما صار لصاحبه من الجيد والرديء ، فهذه تدخلها قسمة الإجبار ، وتصير في القسمة كالمتساوية الأجزاء .

                                                                                                                                            [ ص: 256 ] والضرب الثاني : أن لا يمكن تساويهما في الجيد والرديء ؛ لأن العمارة في أحد النصفين دون الآخر ، أو لأن الشجر والبناء في أحد النصفين دون الآخر ، فقسمة مثل هذا قد تكون على أحد أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تقسم قسمة تعديل بالقيمة على زيادة الذرع : مثاله : أن تكون الأرض ثلاثين جريبا بين شريكين نصفين وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريبا من رديئها ، فيقسم بينهما على فضل الذرع فيجعل أحد السهمين عشرة أجربة ، لفضل جودته ، والسهم الآخر عشرين جريبا ، لنقص رداءته .

                                                                                                                                            ففي دخول الإجبار في هذه القسمة قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا إجبار فيها لتعذر التساوي في الذرع وتكون موقوفة على التراضي .

                                                                                                                                            والقول الثاني : واختاره أبو حامد الإسفرايني : أنه تدخلها قسمة الإجبار لوجود التساوي في التعديل .

                                                                                                                                            فعلى هذا فيما يستحقه القاسم من أجرته وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها على الشريكين نصفين ، لتساويهما في أصل الملك .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن على صاحب العشرة الأجربة ثلثها ، وعلى صاحب العشرين ثلثيها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تقسم قسمة رد مع التساوي في الذرع ، مثاله : أن يكون الشجر والبناء في جانب من الأرض ، فيقسم الأرض بينهما نصفين بالسوية ، ويجعل الشجر والبناء قيمة ، فإن كانت قيمته ألف درهم ، وجب على من صار له جانب الشجر والبناء خمسمائة درهم يدفعها إلى صاحبه .

                                                                                                                                            فهذه القسمة ، قسمة مراضاة لا يدخلها الإجبار : لأن دخل الرد بالعوض يجعلها بيعا محضا ، وليس في البيع إجبار .

                                                                                                                                            ولهما في هذه القسمة أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يتراضيا بهذه القسمة ويتفقا على من يأخذ الأعلى ويرد ، ومن يأخذ الأدنى ويسترد ، فقد تمت القسمة بينهما بالمراضاة بعد تلفظهما بالتراضي : لأن البيع لا يصح إلا باللفظ ويكون تلفظهما بالرضى جاريا مجرى البدل والقبول ، ولهما خيار المجلس ما لم يفترقا وإن شرطا في حال الرضا خيار ثلاث كان لهما .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان الرد فيها قليلا صحت ، وإن كان كثيرا بطلت .

                                                                                                                                            [ ص: 257 ] وهي عندنا مع قليل الرد وكثيره جائزة : لأنها معتبرة بالتراضي وجارية مجرى البيع .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يتنازعا في طلب الأعلى ويتزايدان أو يتنازعا في طلب الأدنى ويتناقصان ، ثم يستقر الأمر بينهما بعد الزيادة والنقصان على من يأخذ الأعلى ويرد ، ومن يأخذ الأدنى ويسترد ، فتتم هذه القسمة بينهما بالمراضاة ، ويبطل بها ما تقدم من تقويم القاسم ، بما استقر بينهما من الزيادة عليها أو النقصان فيها ثم الخيار على ما قدمناه .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يتنازعا في طلب الأعلى ، فيطلبه كل واحد من غير زيادة ، أو يتنازعا في أخذ الأدنى ، فيطلبه كل واحد منهما من غير نقصان ، ولا يتراضيا فيه بالقرعة ، فلا إجبار على واحد منهما ويقطع النزاع بينهما وتصير الأرض باقية بينهما على الشركة كالشيء الذي لا يدخله القسم .

                                                                                                                                            والحال الرابعة : أن يتنازعا ويتراضيا بالقرعة .

                                                                                                                                            ففي جواز الإقراع بينهما وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأنه بيع وليس في البيع إقراع .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز الإقراع بينهما تغليبا لحكم القسمة واعتبارا بالمراضاة .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن كان القاسم من قبل الحاكم ، فلا خيار لهما بعد القرعة ، وإن كان القاسم من قبلهما ثبت لهما بعد القرعة خيار . وفيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كخيار العيب معتبر بالفور .

                                                                                                                                            والثاني : أنه خيار مجلس يعتبر بالافتراق .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : من ضروب القسمة أن تقسم الأرض بينهما نصفين بالسوية ، ويكون ما فيها من الشجر والبناء على الشركة .

                                                                                                                                            فإن تنازعا في هذا ، ولم يتفقا عليه ، لم يقع فيه إجبار وإن تراضيا به واتفقا عليه ، دخل في الأرض قسمة الإجبار ما كانا مقيمين على هذا الاتفاق ، وقسمت بينهما جبرا بالقرعة .

                                                                                                                                            وإن رجع أحدهما عن الاتفاق زالت قسمة الإجبار وكانت موقوفة على التراضي .

                                                                                                                                            الضرب الرابع : أن يقسم بياض الأرض بينهما بالسوية ويكون ما فيه الشجر والبناء بينهما على الشركة .

                                                                                                                                            ففي حكم هذه الأرض إذا تميز بناؤها وشجرها عن بياضها وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 258 ] أحدهما : أن حكمها حكم أرض واحدة لاتصالها ، فعلى هذا لا تدخلها قسمة الإجبار في بياضها ؛ لأنه لا يدخلها في شجرها ونباتها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن حكم شجرها وبنائها متميز عن حكم بياضها ، فصارتا باختلاف الصفتين كالأرضين المفترقتين ، فتدخلها قسمة الإجبار في البياض ، كما لو انفرد ولا تدخلها قسمة الإجبار في الشجرة والبناء كما لو انفرد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية