الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل : في ألفاظ الرواية

                        [ من الصحابي ]

                        اعلم أن الصحابة إذا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو أخبرني ، أو حدثني ، فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما كان مرويا بهذه الألفاظ أم ما يؤدي معناها ، كشافهني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو رأيته يفعل كذا ، فهو حجة ، بلا خلاف .

                        وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كأن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا ، أو أمر بكذا ، أو [ ص: 202 ] نهى عن كذا ، أو قضى بكذا ، فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة ، سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم ; لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى تقدير أن ثم واسطة ، فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور ، وهو الحق .

                        وخالف في ذلك داود الظاهري فقال : إنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ، ولا حجة لهذا ، فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب .

                        وقد أنكر هذه الرواية عن داود بعض أصحابه ، فإن قال الصحابي أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا بصيغة الفعل المبني للمفعول ، فذهب الجمهور إلى أنه حجة ; لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة .

                        وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية إنه لا يكون حجة ; لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء .

                        ويجاب عنه بأن : هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور .

                        وحكى ابن السمعاني قولا ثالثا ، وهو الوقف ، ولا وجه له ; لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور ، وظهور وجه يدفع الوقف ; إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما .

                        وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولا رابعا ، وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة ; لأنه لم يتأمر عليه أحد ، وبين أن يكون القائل غيره ، فلا يكون حجة ، ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة .

                        وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولا خامسا ، وهو الفرق بين كون قائله من أكابر [ ص: 203 ] الصحابة ، كالخلفاء الأربعة ، وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة ، وبين كون قائله من غيرهم ، فلا يكون حجة ، ولا وجه لهذا أيضا لما تقدم .

                        وأيضا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ، ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ، ويريد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه لا حجة في قول غيره .

                        ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بعد موته ، فإن لها حكم الرفع ، وبها تقوم الحجة .

                        ومثل هذا إذا قال : من السنة كذا ، فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه قال الجمهور .

                        وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم : أنه يحمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظاهر وإن جاز خلافه ، وقال في الجديد : يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة .

                        ويجاب عنه : بأن هذا احتمال بعيد ، والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ; ليعملوا بها ، فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون ؟

                        قال الكرخي والرازي والصيرفي : إنه ليس بحجة ; لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة ; لاستناده إلى الشرع ، وحكى هذا الجويني عن المحققين .

                        ويجاب عنه : بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع ، فلا يحمل عليه .

                        [ ص: 204 ] ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له .

                        وأما التابعي إذا قال : من السنة كذا ، فله حكم مراسيل التابعين ، هذا أرجح ما يقال فيه ، واحتمال كونه أراد مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر ، فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج ، وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة .

                        قال ابن عبد البر : إذا أطلق الصحابي السنة ، فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها ، كقولهم ( سنة العمرين ) ، ونحو ذلك .

                        فإن قال الصحابي : كنا نفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا ، أو كانوا يفعلون كذا ، فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ، ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتكون الحجة في التقرير ، وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا ، فقد يضاف فعل البعض إلى الكل .

                        وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقوال ، فقال : قبله أبو الفرج من أصحابنا ، ورده أكثر أصحابنا ، وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد : والوجه التفصيل بين أن يكون شرعا مستقلا ، كقول أبي سعيد : كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير . الحديث . فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل ، كقول رافع بن [ ص: 205 ] خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك ، ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي .

                        وقيل : إن ذكر الصحابي ذلك في معرض الحجة حمل على الرفع ، وإلا فلا .

                        وأما لو قال الصحابي : كانوا يفعلون ، أو كنا نفعل ، ولا يقول على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تقوم بمثل هذه الحجة ; لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا هو حكاية للإجماع .

                        وقالت الحنفية والحنابلة : إنه إجماع . قال الغزالي : إذا قال التابعي : كانوا يفعلون كذا فلا يدل على فعل جميع الأمة ، ولا حجة فيه ; إلا أن يصرح بنقل الإجماع .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية