الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الموفية ثلاثين : في بناء العام على الخاص

                        قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز ، فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة ، قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها ، فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم ، فإن علم ، فإن كان المتأخر الخاص ، فإما إن كان يتأخر عن وقت العمل بالعام ، أو عن وقت الخطاب ، فإن تأخر عن وقت العمل بالعام ، فهاهنا يكون الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من أفراد العام .

                        قال الزركشي في البحر : وفاقا ، ولا يكون تخصيصا ; لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعا .

                        وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به ، ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، فمن جوزه جعل الخاص بيانا للعام ، وقضى به عليه ، ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص ، كذا قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، وسليم الرازي قال : ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها ، وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان ، وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع ، وابن الصباغ في العدة .

                        قال الصفي الهندي : من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ، ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به ، كالمعتزلة ، أحال المسألة ، ومنهم من جوزهما ، فاختلفوا فيه ، فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام ; لأنه وإن جاز أن يكون ناسخا لذلك القدر من العام ، لكن التخصيص [ ص: 463 ] أقل مفسدة من النسخ ، وقد أمكن حمله عليه فتعين .

                        ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل ، أو الاعتقاد بمقتضى العام ، كان الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من العام ; لأنهما دليلان ، وبين حكميهما تناف ، فيجعل المتأخر ناسخا للمتقدم عند الإمكان ، دفعا للتناقض ، قال : وهو ضعيف ، انتهى .

                        فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص ، فعند الشافعية يبنى العام على الخاص ; لأن ما تناوله الخاص متيقن ، وما تناوله العام ظاهر مظنون ، والمتيقن أولى .

                        وذهب أبو حنيفة ، وأكثر أصحابه ، والقاضي عبد الجبار إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم .

                        وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف .

                        وقال أبو بكر الرازي : إذا تأخر العام كان ناسخا لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص . انتهى .

                        والحق في هذه الصورة البناء .

                        وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص ، لكنه قبل وقت العمل به ، فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ ، إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به ، كالقاضي عبد الجبار فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ ، فتعين عليه البناء ، أو التعارض فيما تنافيا فيه .

                        وجعل إلكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنيا على تأخير البيان ، فقال : من لم يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخا للخاص .

                        هذه الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلوما ، فإن جهل تاريخهما ، فعند الشافعي ، وأصحابه ، والحنابلة ، والمالكية ، وبعض الحنفية ، والقاضي عبد الجبار أنه يبنى العام على الخاص .

                        وذهب أبو حنيفة ، وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ ، أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر من غيرهما ، وحكي نحو ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني ، والدقاق .

                        والحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء ، وليس عنه مانع يصلح [ ص: 464 ] للتشبث به ، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب ، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء ، وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا ، وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام ، والأقوى أرجح ، وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص ، وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام .

                        وأيضا قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ .

                        والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة .

                        وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا ، وعلم التاريخ بينهما ، فوجب تسليط المتأخر على السابق ، كما لو كان المتأخر خاصا ، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة ، فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة .

                        وأيضا في البناء جمع ، وفي العمل بالعام ترجيح ، والجمع مقدم على الترجيح ، وأيضا في العمل بالعام إهمال للخاص ، وليس في التخصيص إهمال للعام ، كما تقدم .

                        وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العمل إن شاء الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية