الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن بشار ، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي ، أخبرنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ) : قيل اسمه قيس ، وقيل هند بن دينار . ( عن ميمون بن أبي شيب ) : بالمعجمة على زنة حبيب . ( عن سمرة بن جندب ) : بضم الجيم والدال وتفتح . ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البسوا البياض فإنها أطهر ) : أي لا دنس ولا وسخ فيها ، قال ميرك : لأن الأبيض لم يصل إليه الصبغ فإنه قد يتنجس بالتلطخ وملاقاته شيئا نجسا ، إذ الثياب الكثيرة إذا ألقيت في الصبغ يمكن أن يكون ثوب نجس بين الثياب فيتنجس الصبغ ، فالاحتياط أن لا يصبغ الثوب ، ولأن الثوب المصبوغ إذا وقعت عليه نجاسة لا يظهر مثل ظهورها إذا وقعت في ثوب أبيض ، فإذا كانت النجاسة أظهر في الثوب الأبيض كان هو من غيره أطهر . قال الطيبي : لأن البيض أكثر تأثرا من الثياب الملونة فيكون أكثر غسلا فيكون أكثر طهارة . ( وأطيب ) : مأخوذ من الطيب أو الطيب لدلالته غالبا على التواضع وعدم الكبر والخيلاء ، أو لكونه أحسن لبقائه على اللون الذي خلقه الله عليه كما أشار إليه قوله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، وترك تغيير خلق الله أحسن إلا إذا جاء نص باستحباب تغييره كخضاب المرأة يدها بالحناء ، وإلا إذا كان هناك غرض مباح أو ضرورة كما اختار الأزرق بعض الصوفية لقلة مؤنة غسيله ورعاية حاله ، وقيل : أطهر لأنها تغسل من غير مخافة على ذهاب لونها ، وأطيب أي ألذ لأن لذة المؤمن في طهارة ثوبه ، وأما قول ابن حجر : وفيه من الركاكة ما لا يخفى . فلا يخفى ما فيه من الجفاء مع ظهور الخفاء ، وقد قال بعد ذلك : أخرج أبو نعيم من كرامة المؤمن على الله عز وجل نقاؤه ثوبه ورضاه باليسير ، انتهى . ومعناه باليسير من الثياب أو بالقليل من الدنيا والقناعة بالبلاغ إلى العقبى ، ولأبي نعيم أيضا أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخة ثيابه فقال : " أما وجد هذا شيئا ينقي به ثيابه " . ويمكن أن يكون معنى أطيب أنه كلما يغسل الأبيض يكون أطهر ، وأطيب بمعنى أحسن وألذ ، بخلاف المصبوغ فإنه ليس كذلك ، والأظهر أن المراد بأطيب أحل ، ففي النهاية أكثر ما يرد الطيب بمعنى الحلال كما أن الخبيث بمعنى الحرام ، ويؤيده قوله تعالى : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) ، وأما قول بعضهم من أنه عطف أحد المترادفين على الآخر مبالغة ، فمدفوع بأن العطف متى أمكن حمله على التأسيس فتقديره على التأكيد ممنوع . ( وكفنوا فيها موتاكم ) : ولعل فيه الإشارة الخفية إلى أن أطيبية لبس البياض في الدنيا إنما يكون لتذكر لبس أهل العقبى وإيماء إلى أن مآله إلى الخلاقة والبلى فلا [ ص: 149 ] ينبغي للعاقل أن يتكلف ويتحمل في تحصيله البلاء ، وقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي الدرداء مرفوعا : " إن أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض " . قال ميرك : وفي إسناده مروان بن سالم والغفاري متروك الحديث وباقي رجاله ثقات ، انتهى . ففيه إيماء إلى أنهم ينبغي أن يرجعوا إلى الله حيا وميتا بالفطرة الأصلية المشبهة بالبياض ، يعني التوحيد الجبلي بحيث لو خلي وطبعه لاختاره من غير نظر إلى دليل عقلي أو نقلي ، وإنما يغيره العوارض المشار إليها بقوله : " فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " . بالتقليد المحض الغالب على عامة الأمة ، ( قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ) ، وفيه إشعار إلى طهارة باطنه من الغل والغش والعداوة وسائر الأخلاق الذميمة المشبهة بالنجاسة الحقيقية أو الحكمية ; ولذا قال تعالى : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ، والحاصل أن الظاهر عنوان الباطن وأن لنظافة الظاهر وطهارته وتزيينه تأثيرا بليغا في أمر الباطن ، وفي الحديث ما يؤيد تفسير أطيب بأحسن ، وفي إطلاق أحسن إشعار بزيادة " من " في قوله " من خيار ثيابكم " ، واعلم أن البياض أفضل في الكفن ; لأن الميت بصدد مواجهة الملائكة ، كما أن لبسه أفضل لمن يحضر المحافل لدخول المسجد للجمعة والجماعات وملاقاة العلماء والكبراء ، وأما في العيد فقال بعضهم : الأفضل فيه ما يكون أرفع قيمة نظرا إلى إظهار مزيد النعمة وآثار الزينة ومزية المنة ، قال ميرك : واعلم أن وجه دخول هذين الحديثين في باب لباسه صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن خفاء فإنه ليس فيهما التصريح بأنه عليه السلام لبس الثوب الأبيض ، لكن يفهم من أمره بلبس البياض وترغيبه إليه أنه كان يلبسه أيضا ، وقد وقع التصريح بذلك في حديث أبي ذر المخرج في الصحيحين حيث قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض .

التالي السابق


الخدمات العلمية