الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري ، أخبرنا معن ، أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ) تقدم ( عن الأعرج ) اسمه عبد الرحمن أبو داود المزني اشتهر بهذا اللقب أخرج حديثه الستة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يمشين أحدكم ) وفي بعض النسخ لا يمشي ، وهذا نفي صورة ونهي معنى ، وهو أبلغ من النهي الصريح ، وأما قول العصام نسخة لا يمشي ، تستدعي حمل لا يمشين على الخبر الواقع موقع النهي ، دون النهي فغير ظاهر ، لنسخة لا يمشي بالنهي ، ثم محل النهي أن يكون من غير ضرورة ، وإلا فلا كراهة كما هو ظاهر ، قال ابن حجر : وعليه يحمل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعله، انتهى ، ويمكن أن يحمل فعله على ما قبل النهي أو على بيان الجواز ( في نعل واحد ) وروي واحدة بالتأنيث ، كما في بعض النسخ ، قال الحنفي : والنعل مؤنث ووصفها بالواحد ، وهو مذكر ; لأن تأنيثها غير حقيقي ، انتهى ، والصواب أن تذكيره بتأويل الملبوس، قال الخطابي : المشي يشق على هذه الحالة ، مع سماجته في الشكل ، وقبح منظره في العيون ، وقيل : لأنه لم يعدل بين جوارحه ، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي وضعفه ، وقال ابن العربي : العلة فيه أنها مشية الشيطان ، وقيل : لأنها خارجة عن الاعتدال ، وقال البيهقي الكراهة للشهرة فيمتد الإبصار لمن يرى ذلك منه ، وقد ورد النهي عن الشهرة [ ص: 164 ] في اللباس وكل شيء صير صاحبه مشهورا ، فحقه أن يجتنب كذا حققه العسقلاني ، وقال : قد أخرج ابن ماجه بلفظ لا يمشي أحدكم في نعل واحد ، ولا في خف واحد ( لينعلهما جميعا ) بضم الياء وكسر العين ، وفي نسخة بفتحهما وسكون اللام الثاني، والأول مكسور للأمر ، قال العسقلاني : ضبط النووي بضم أوله من أنعل ، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي ، بأن أهل اللغة قالوا : نعل بفتح العين وحكي كسرها ، وانتعل أي لبس النعل ، لكن قد قال أهل اللغة أيضا أنعل رجله ألبسها نعلا ، وأنعل دابته جعل لها نعلا ، والحاصل إن كان الضمير للقدمين تعين الضم ، وإن كان للنعلين تعين الفتح انتهى ، وأقول إن كان الضمير للقدمين جاز الضم والفتح لما في القاموس ، نعل كفرح وتنعل وانتعل لبسها ، ونعلهم كمنع وهب لهم النعال ، والدابة ألبسها النعل ، كأنعلها ونعلها ، وقد نقل العصام عن العسقلاني : أنه مع جعل الضمير للقدمين جاز أن يكون مجردا أو مزيدا ، وإن كان للنعلين فهو مجرد ، فاندفع ما ذكر الشارح أنه إن جعل الضمير للقدمين لا يحتمل المجرد ; لأنه لا معنى للبس القدمين ، وبهذا يندفع أيضا ما قال بعضهم لكن قوله ( أو ليخلعهما ) يؤيد ضبط النووي فإن الضمير للقدمين ، فالمناسب أن الضمير الذي في قوله لينعلهما للقدمين أيضا .

وأما قوله : " ليخلعهما " على ما في بعض نسخ الشمائل ورواية لمسلم . والموطأ يؤيد الفتح، نعم ، الأظهر في رواية مسلم أن الضمير للنعلين ، وفي رواية المتن المطابقة لما في رواية البخاري ، أن الضمير للقدمين ، وكلتا الروايتين صحيحة .

وأما قول ابن حجر تبعا للعصام ، ورواية : فليخلعهما لا تعين الضمير للنعلين لاحتمال أن فيه حذفا ، أي ليخلع نعليهما فلا يخفى أنه احتمال بعيد ، قال ابن عبد البر قوله : لينعلهما أراد القدمين ، وإن لم يجر لهما ذكر ، وهذا مشهور في لغة العرب ، وجاء في القرآن لدلالة السياق عليه انتهى . وكأنه أراد قوله تعالى : حتى توارت بالحجاب وقوله سبحانه : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ثم كلمة أو للتخيير وقوله : ( جميعا ) مؤكد لضمير التثنية في الموضعين بمعنى معا ، وقوله : ليحفهما ضبط في أصلنا بضم الياء وكسر الفاء ، من الإحفاء وهو الإعراء عن النعل والخف ، وقال الحنفي : وروي بفتحهما من حفي يحفى من باب علم ، والأول أظهر معنى ; لأن يحفى ليس بمتعد انتهى . وتكلف ابن حجر له ، وقال : إنه من الحفاء وهو المشي بلا خف ونعل ، والتعدية حينئذ مجازية والأصل ليحف بهما ، فحذف الجار اختصارا انتهى . يريد أنه من باب الحذف والإيصال ، لكن لا يظهر له معنى حال الانفصال والاتصال ، ثم قال : أو يضمن المجرد معنى المتعدي بلا حذف انتهى . وهو أبعد من الأول في ظهور الحال والمآل ، ثم قيل : إن هذا أمر إرشاد ; لأن المشي في نعل واحد لا يأمن العثار ، وأيضا يوجب الاستهزاء به ، ولا ينافي كراهة المشي في نعل واحدة فعل جمع من الصحابة له لاحتمال أنه لعذر ، أو لكون النهي ما بلغهم إن ثبت تأخر فعلهم عن قوله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن حجر : وقول ابن سيرين لا بأس به ، يرده صريح السنة انتهى . وفيه بحث ; لأنه إذا كان الأمر للإرشاد أو للندب فلا بأس بقوله لا بأس لأنه يستعمل في خلاف الأولى ، وفي كراهة التنزيه أيضا ، وذكر في شرح [ ص: 165 ] السنة أنه قد ورد في الرخصة بالمشي في نعل واحدة أحاديث ، وروي عن علي وابن عمر ، وكان ابن سيرين لا يرى بها بأسا انتهى . وكفى بفعل علي وابن عمر جوازا ، وابن سيرين من المجتهدين فلا يليق الطعن به ، وألحق بعضهم بذلك إخراج إحدى اليدين من الكم ، وإلقاء الرداء على إحدى المنكبين ، ولبس نعل في رجل واحد ، وخف في أخرى ، ذكره في شرح السنة وتعقبه ابن حجر بما لا يجدي ، وأما ما أخرجه مسلم من طريق أبي رزين عن أبي هريرة ، إذا انقطع شسع أحدكم أو شراكه فلا يمش في أحديهما ، بنعل والأخرى حافية ، ليحفهما جميعا ، فقد قال ميرك : هذا لا مفهوم له حتى يدل على الإذن في غير هذه الصورة ، وإنما خرج مخرج الغالب ، ويمكن أن يكون من مفهوم الموافقة ، وهو التنبيه بالأدنى على الأعلى ; لأنه إذا امتنع مع الاحتياج فمع عدمه أولى ، وقال العسقلاني : وهذا دال على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة ، قالت : ربما انقطع شسع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة ، حتى يصلحها ، قال ميرك : هكذا نقله الشيخ عن جامع الترمذي ، ولم أجده بهذا اللفظ في أصل الترمذي ، بل فيه من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ربما مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة ، وهكذا أورده صاحب المصابيح ، وصاحب المشكاة ، والشيخ الجزري في تصحيح المصابيح ، عن الترمذي ، والله أعلم .

ثم قال : ووجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يمش على هذه الحالة المنهية عنها أصلا ، وفيه إيماء إلى تضعيف حديث عائشة المتقدم ، والله أعلم .

( حدثنا قتيبة عن مالك عن أبي الزناد ونحوه ) بالنصب أي مثله في المعنى دون اللفظ المتعلق بالمتن ، والأظهر أنه يريد بنحوه ، نحو الإسناد المتقدم ، فكأنه قال إلى آخر الإسناد فلا يرد ما قاله العصام من أن حديث قتيبة منقطع ومرسل ; لإسقاط الأعرج عن الإسناد وإسناد أبي هريرة ، نعم كان يكفي أن يقول عن مالك ويزيد بهذا الإسناد .

التالي السابق


الخدمات العلمية