الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
هـل نخشى على الأصالة؟

لقد انفتح العلمانيون على الثقافة العالمية، ونقلوها للجياع وملئوا بها الفراغ، ولا يزالون نشيطين في تعميق الاغتراب، وإيجاد الانقطاع بيننا وبين جذورنا العربية الإسلامية.

ما الضرر في الإفادة من الخيال العلمي والرؤى المستقبلية عند أدباء العالم؟ لقد تمكن " ويلز " من التنبيه إلى خطورة سيطرة الآلة على الإنسان، وتوقع ظهور الكمبيوتر وهيمنته على عالم المستقبل، وذلك من أكثر من نصف قرن!

ما المانع من الإفادة في الشكل من الحلقات القصصية التي تبدو كل حلقة منها قصة كاملة، وإذا أدخلت ببعضها شكلت قصة واحدة طويلة، وهو لون سبق إليه الكاتب الأمريكي " جون شتاينبك " صاحب قصة " أفول القمر " ؟ [ ص: 122 ]

ما الذي يمكن أن يحدث لو تم الانتقاء والاقتباس في الشكل، وعمقت المضامين من تجارب الآخرين على أيدي أدباء مسلمين تربوا على معاني الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وتمكنوا من حيازة المستوى الفني العالي شكلا ومضمونا؟ ألا يسد ذلك الفراغ الذي ولده انحسار الحضارة الإسلامية، وتوقف الإبداع في الحركة الفكرية عدة قرون؟ ولو فعلنا ذلك هـل كنا نعاني من الاغتراب الشديد، والإحساس بالضياع، وفقدان الهوية كما هـو الحال في الجيل المعاصر الذي تسلم زمامه دعاة الاغتراب؟! ولا ندري ماذا سيكون حال الأجيال اللاحقة إن لم نتمكن من طبع نتاجنا الأدبي والفكري بطابع الأصالة والإبداع الفني ليتمكن من الوقوف أمام سبل أدب الاغتراب؟ إنها دعوة إلى المفكرين والأدباء المسلمين للتفنن في الشكل، والتعمق في المضمون، والجمع بين الأصالة والمعاصرة قبل فوات الأوان.

أما ما يتعلق بوضع استراتيجية الثقافة الإسلامية من أجل مراعاة مبدأ تراكم المعرفة في النتاج الجديد حفاظا على الطاقات، ورغبة في الوصول إلى نتائج مثمرة تخدم القضية الإسلامية في هـذا العصر، فلا بد أن يبنى ذلك على دراسة الواقع التاريخي للثقافة الإسلامية إلى جانب واقعها المعاصر.

فإلى أي مدى راعى المؤلفون المسلمون مبدأ الإضافة إلى المعرفة؟ في القرون الهجرية الأربعة الأولى حيث تمثل عصر الازدهار الحضاري، نجد ذلك في كثير من المؤلفات المبتكرة في شتى الحقول، [ ص: 123 ] من لغة وأدب وتاريخ وفقه وأصول فقه وحديث وتفسير... إلخ، وفي العصور التالية يضعف الابتكار، ويكثر التقليد والتكرار، حتى إننا لا نكاد نلمس بوضوح مبدأ الإضافة العلمية من قبل اللاحق إلى السابق إلا في أعمال نادرة تظهر كوميض البرق في دياجير الظلام، ومن ذلك الوميض: شروع الحافظ العراقي في إكمال بناء موسوعة السنة النبوية، وذلك بإضافة الزوائد الحديثية على الكتب الستة، حيث نهض بعمل كتب الزوائد تلاميذه: الهيثمي وابن حجر ، حيث إن فكرة الإضافة العلمية والسعي إلى التكامل والتنسيق في الأعمال العلمية والنتاج الفكري كان واضحا في عمل كتب الزوائد في الحديث.

وكذلك كانت فكرة التكامل واضحة عند بعض العلماء، كما يظهر من كلام السبكي [ ت 771هـ ] عن الحافظ البيهقي حيث بين أنه آخر من جمع النصوص التي استند عليها فقه الإمام الشافعي ، وعلل ذلك بقوله: " لذلك استوعب أكثر ما في كتب السابقين، ولا أعرف أحدا بعده جمع النصوص لأنه سد الباب على من بعده " .

ولكن هـذا الوضوح في تصور هـذا المبدأ الهام يقتصر على قلة قليلة من العلماء، وأما الغالب على الحركة الفكرية بعد القرن الرابع فهو اتسام النتاج الفكري بالتكرار والاقتباس والتقليد والسرقات الأدبية الكثيرة، وأحيانا سرقة كتاب برمته وليس مجرد بيت شعر أو قصيدة.

أفرد الترمذي [ ت 279هـ ] شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم في كتاب، فجاء [ ص: 124 ] بعده أكثر من ثلاثة عشر مؤلفا شرحوها فقط! وكتب القاضي عياض [ ت 542هـ ] كتابه الجليل ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) فإذا بأكثر من عشرين مؤلف كتبوا في اختصاره أو شرحه!! وألف أحمد بن فارس اللغوي [ ت 395هـ ] كتاب (المغني في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ) ، كان ذلك في القرن الرابع الهجري والتعريف بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم أمر نافع لا شك، وحصرها عمل علمي، لأهمية شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في حياة المسلمين، ولكن منذ القرن السابع الهجري وحتى القرن الرابع عشر ألف المسلمون تسعة وعشرون كتابا في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وشرحها ونظمها [1] ..

وليت هـذه هـي كل الأمثلة، فهناك عشرات الأمثلة على هـذه الظاهرة، فقد ألف خمسة وعشرون كتابا في نسب المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر، ولم يخصص لهذا الأمر إلا مؤلف واحد في القرون السابقة الأولى كتبه الطبري [ ت 360هـ ]، مع أن كتب الأنساب العربية وهي كثيرة، عنيت بنسبه عليه الصلاة والسلام ، وهذه المؤلفات وإن عكست مدى حب وتعلق المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولكن أليس هـذا العمل مجرد تقليد وضياع للجهود؟ فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تشتمل على جوانب أخرى أكثر أهمية، وتحتاج إلى عقل وقلب يجليها تحقيقا [ ص: 125 ] للاقتداء به، كما أمر الله تعالى عباده، فهذه إذن ظاهرة سلبية في عصور الانحطاط الحضاري.

إن تراكم المعرفة يحتاج إلى التخطيط بحيث يبني اللاحق على السابق، ويضيف المتأخر على المتقدم، وبذلك تتراكم المعرفة ويحصل التقدم العلمي، إن ذلك لا يعني أن المؤلفين في القرون المتعاقبة التي تلت القرون الهجرية الخمسة الأولى لم يضيفوا شيئا إلى معرفة أسلافهم، ولكن نسبة التراكم العلمي ضئيلة إذا قيست بطول الفترة الزمنية (تسعة قرون ) وكثرة المصنفات التي غلب عليها التقليد والاقتباس، والشرح اللفظي، والتلخيص لأمهات كتب العلوم بشكل تعليقات تعطى للطلبة...

ولكن مما لا شك فيه أن بعض المؤلفين تمكن من تقديم إضافات علمية واضحة، من ذلك: إضافة الغزالي إلى علم أصول الفقه في كتابه (شفاء الغليل ) حيث توسع في مسالك العلة بحيث قدم كتابا ضخما يوازي في حجمه كتب أصول الفقه الشاملة التي تتناول سائر المسائل الأصولية، مع أنه يركز على جانب واحد من هـذا العلم الهام، وما قدمه ابن رجب من إضافة إلى علم مصطلح الحديث في كتابه (شرح علل الترمذي ) عندما قعد القواعد النقدية للوصول إلى العلل التي تضعف الأحاديث النبوية.

وهناك نماذج أخرى، مثل: الأعمال النقدية للحافظ الذهبي ، وللحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما... [ ص: 126 ]

بل إن عمل الذيول على الكتب هـو نمط يوضح الانتباه إلى التكامل في الأعمال العلمية وعدم التكرار وإضاعة الجهود، وهذا واضح في المؤلفات التاريخية مثل: " ذيول تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي .

إن تاريخ الحركة الفكرية في الإسلام ينبغي أن يخص بدراسة ناقدة تجلي الإيجابيات والسلبيات، وتعلل ذلك قدر الإمكان. إن الظاهرة السلبية التي أشرت إليها يمكن أن تعلل بصعوبة الاتصال بين العلماء المسلمين في القرون الخالية مما يؤدي إلى عدم معرفتهم بنتاج بعضهم، هـذا بالنسبة للمتعاصرين منهم، وصعوبة الوقوف على الكتب في تلك العصور التي لم تتوفر فيها وسائل الطباعة والنشر، بل كان الوراقون ينسخون نسخا قليلة من كل كتاب، وكانت أسعار الكتب المنسوخة عالية، فلا يتمكن الكثيرون من شرائها، وكان العديد من العلماء ينسخون الكتب لأنفسهم، ربما حرصا على الإتقان، وربما توفيرا للمال أيضا، ولكن كما ذكرت يبقى التقليد والتلخيص والشرح هـو الغالب على مؤلفات القرون التي أعقبت عصر ازدهار الحضارة الإسلامية... ولو كتب للحركة الفكرية الاستمرار في النمو والتكامل، وترسم مسالك الأوائل، لكانت القواعد النقدية، والأشكال الفنية، والمذاهب الأدبية قد تطورت ضمن إطار الحضارة الإسلامية بروحها وعلومها، ولم نقع في هـذا التيه والفراغ الذي صرنا نملؤه بمعطيات غريبة. [ ص: 127 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية