الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
القرآن الكريم ومنهج البحث التجريبي

لقد أقر " برتراند رسل " بأن العرب كانوا سادة التجريب، ولكنه لم يفطن إلى أنهم فعلوا ذلك في ظل التنظير القرآني، حيث إن القرآن الكريم هـو الذي لفت نظر المسلمين إلى الطبيعة، ودعاهم للكشف عن أسرارها عن طريق الاختبار والتجريب باستخدام العقل والحواس؛ موضحا أن الطبيعة مسخرة للإنسان الذي من واجبه التعرف على قوانينها للإفادة من هـذا التسخير، ومن ثم الحصول على القوة اللازمة لإعلاء شأن العقيدة:

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ... ) (الأنفال:60 ) ، وجاءت كلمة (قوة ) نكرة لتعم كل أنواع القوى المادية والمعنوية.

ولم يقتصر جهد علماء المسلمين على اكتشاف منهج البحث التجريبي وتطبيقه في نطاق العلوم الطبيعية والرياضية، بل وضعوا مناهج أخرى للبحث في العلوم الشرعية والاجتماعية، فكان لعلماء أصول الفقه منهج متميز يقوم على الاستقراء والاستدلال معا، يتعاملون وفقه مع النصوص الشرعية مجتهدين للوصول إلى الأحكام المتنوعة للمشاكل المتجددة؛ وهو منهج فريد في دقته وشموله.

كما كان لعلماء الحديث منهج للتعامل مع الرواية الحديثية سندا ومتنا، تلتقي به معظم منجزات منهج البحث التاريخي الغربي، مما يدل [ ص: 64 ] على تأثرها به، خاصة وأن المحدثين سبقوا في منهجهم بـ " علوم الحديث " منهج البحث التاريخي الغربي، بما يزيد على عشرة قرون.

إن من أبرز عوامل تخلف المسلمين في العصور المتأخرة من تاريخهم: تخليهم عن مناهج البحث العلمي التي يعتبرون روادا في ميادينها؛ لكنهم لم يقطفوا ثمراتها كاملة حيث أسلموها للغرب ليقتطفها...

وبعد فلا بد من قراءة جديدة متأملة لقوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36 ) ، وفي ضوء قوله عليه الصلاة والسلام ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) [ رواه الترمذي ].

ولا بد بعد ذلك من إلقاء الضوء على الجهد المقابل الذي بذله علماء الغرب في تطوير ما اقتبسوه من المسلمين من مناهج البحث العلمي التجريبية والاجتماعية، وما أحاط بمنهج البحث الغربي من المؤثرات الحضارية والفكرية والتأريخية، مما أدى إلى انحارفه في التطبيق عن " الموضوعية " خاصة في دراسة " تراث الإسلام " .

بالإضافة إلى انحرافه عن الأصل الإسلامي المقتبس بسبب المؤثرات الفكرية المتصلة بالفلسفات المادية، وإنكار الألوهية والنبوة والوحي والروح، وكل ما لا يقع تحت دائرة الحس؛ وهو انحراف خطير جر إلى [ ص: 65 ] تحديد مصادر المعرفة بصورة ضيقة.

وقد يتصور بعضهم أن إنكار عالم الغيب هـو سبب تفوق المنهج الغربي وتقدم العلوم والمدنية عند الغربيين، ولكن النظرة الفاحصة ستوضح أن التزام المنهج الغربي بطريقة الاستقراء التي اتبعها العلماء المسلمون وتخليهم عن منهج الاستنباط والقياس اليوناني هـو سبب ازدهار الحركة العلمية في الغرب؛ خاصة في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات وتطبيقاتها العملية.

التالي السابق


الخدمات العلمية