الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ضوابط الانفتاح على الثقافات العالمية

ولا شك أن أعظم نعمة أنعمها الله تعالى على الناس بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن الكريم عليه وبيانه عليه الصلاة والسلام له بسنته، فانتظمت الشريعة الخاتمة أمور الدين والدنيا بأكمل وأدق نظام يكفل سعادة البشر في حياتهم الدنيا وآخرتهم؛ ولا يدرك ذلك إلا المثقف المسلم الذي اعتنى بكتاب الله تعالى وتدارسه، وبسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وفقهها، فالكتاب والسنة أهم مصدرين لثقافة المسلم، فهما يحددان نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، ويمنحانه المقاييس الدقيقة لمعرفة الخير والشر، وعنهما يصدر في كل أعماله وأقواله، وبهما يحكم على الأفكار والنظريات والنظم والقوانين وكل ما ينتجه العقل الإنساني في مراحل تطوره الطويل.

والمسلم المعاصر يقف أمام مكتبة ضخمة هـي نتاج العقول المفكرة في مختلف العصور والأماكن، تضم ما خلفته الحضارات العالمية في التاريخ الغابر وما يضيفه المفكرون المعاصرون في مختلف المجالات الفكرية والعلمية، وكثير من هـذا النتاج يتعلق بالعقائد والنظم والأفكار والفلسفات.. فلو انغمر المسلم وسط هـذا الركام قبل أن ينال قسطا وافرا من ثقافة الكتاب والسنة فإن عقله يمتلئ بها، وذهنه يزدحم ويصعب عليه تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والسمين من الغث، [ ص: 135 ] وقد يتبنى أفكارا باطلة، ويعتنق عقائد فاسدة، وتنطمس شخصيته الإسلامية وينحرف فكرا وسلوكا عن الإسلام فيبدل نعمة الله كفرا. ومن أجل تجنب الأجيال الإسلامية هـذه الأخطار لا بد من تمهيد الطريق أمامها، وإنارة دربها ببناء ثقافتها الإسلامية القائمة على فقه الكتاب والسنة أولا قبل أن تسقط في ركام الفكر الجاهلي، ويصعب تخليصها من آثاره وبلاياه، وقد اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر، ونبه أمته إلى خطورة ذلك، ففي حديث جابر بن عبدالله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله هـذه نسخة من التوراة؛ فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال أبو بكر : ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، لو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني ) [ رواه الدارمي ؛ سنن 1/ 115/ - 116 وأخرجه ابن حبان في صحيحه ]

( وعن جابر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر ، فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟! يعني: أمتحيرون أنتم في الإسلام فتلجئوا إلى الأخذ من سواه - ثم قال عليه الصلاة والسلام : لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ) [ رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن طرق يؤيد بعضها بعضا ] [ ص: 136 ] فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى المسلمين أول الإسلام عن الاستقاء من غير الكتاب والسنة موضحا أنه جاءهم بالشريعة الواضحة الخالصة من الشرك والشبهات، المصونة عن التبديل والتحريف، التي فيها غنى وكفاية عما سواها من العقائد والأديان، إذ كان لا بد من وضوح الفكرة وصفاء العقيدة واستقرار المقاييس والمفاهيم؛ فلما وعى المسلمون دينهم في صدر الإسلام، وتفتحوا بعد ذلك على ثقافات الأمم وأديانها وعقائدها جعلوا الإسلام حكما عليها، فكانت دراسات الأديان المقارنة التي قام بها مؤلفو كتب الفرق، كابن حزم ، دليلا على استعلاء الإسلام على ما سواه.

وعندما يعي المسلمون دينهم ويفقهون كلام الله ورسوله فإن الإسلام يظل مهيمنا على ما سواه من أفكار ومعتقدات ونظم، وحكما عليها لأنه من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:

( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ... ) ، (آل عمران:85 ) .

وأخيرا لا بد من كلمة عن علاقة التعليم الإسلامي بالتنمية في العالم الإسلامي:

إن التعليم الإسلامي يولد روح الانتماء للأمة، ويمنع التغريب [ ص: 137 ] الفكري والسلوكي، ويقف حائلا دون هـجرة أبناء المجتمع الإسلامي - وهم عادة من المثقفين - إلى مواطن الحضارة الغربية، وذلك لقوة إحساسهم بالانتماء إلى عالم الإسلام، روحا وفكرا وسلوكا، فلا تتبدد الطاقات، ولا تهاجر العقول مما يحافظ على مستقبل البلاد، ويمكنها من تنفيذ خططها التنموية.

إن أية زيارة للبلدان الأوروبية والأمريكية تطلعنا على مدى الاستنزاف الذي تعرضت له بلادنا عندما استقرت أعداد كبيرة من الخبراء والعلماء في مختلف المجالات في تلك البلدان الأجنبية رغم حاجة بلادهم الملحة إليهم، وليس معنى ذلك أنني أتهم هـؤلاء المثقفين والخبراء بضعف الولاء وعدم الانتماء، إذ لا شك أن بعضهم اضطرته الظروف المتنوعة إلى ذلك، ولكن الكثير أيضا فضلوا الحياة الميسرة في الغرب على المعاناة في معركة بناء بلادهم: ولا بد من دراسة السبيل لإعادة هـذه الطاقات الضخمة إلى أهلها بتوفير أجواء الرعاية والاحترام والتكريم للعلماء أدبيا وماديا.

وكذلك فإن أهم ما يساعد على تحقيق خطط التنمية الشعور بالمسئولية، وحماس الناس لتنفيذها، واستعدادهم للتضحية من أجلها ببعض الكماليات، وربما الحاجيات والضروريات أحيانا، وليس أقوى من التعليم الإسلامي في غرس الشعور بالمسئولية والاستعداد للتضحية مع الاعتقاد بأن ما يقدمه الإنسان في الدنيا هـو ادخار لآخرته. [ ص: 138 ]

والتاريخ الإسلامي مليء بالصور المعبرة عن ذلك، فما هـو الأجر الذي أخذه أولئك المقاتلون الشجعان عندما حفروا الخندق شمالي المدينة المنورة ؟ ولماذا تنافسوا في العمل؟

وختاما فإن الجامعات الإسلامية يمكن أن تؤدي دورا كبيرا في تحديد ملامح المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والحفاظ على تميزها ووحدتها عن طريق التعليم، وتجانسها الروحي والفكري والعملي، وتكاملها الجغرافي والاقتصادي، وإنما يمكن أن تبرز على الصعيد العالمي كتلة قوية متضامنة لتؤثر في واقع العالم المعاصر، ولكن قوة تأثير هـذه الجامعات سوف تتوقف على مدى قدرتها على النهوض بالتعليم الإسلامي ليصبح مؤثرا فعالا في بناء الفرد، وصياغة الجماعات، وتقديم القيادات ذات الكفاءة المؤمنة للعالم الإسلامي.

والله يقول الحق وهو يهدي إلى سـواء السبيل. [ ص: 139 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية