الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
التأريخ المشترك

هل ثمة تاريخ مشترك بين المسلمين، وهل بدأ بداية واحدة، وما هـي جذوره التاريخية؟

إن الدولة الإسلامية في عصر الرسالة والراشدين والأمويين ضمت العرب والفرس والأفغان وبعض ديار الترك في آسيا والبربر في شمال أفريقية والغوط في الأندلس ، رغم أن الثقل الكبير استند إلى أكتاف العرب بحكم بزوغ الإسلام فيهم، ولم يتم توسع عسكري مؤثر في جغرافية الدولة الإسلامية بعد ذلك سوى على يد العثمانيين، الذين أضافوا أقساما من شرق أوروبا، [ ص: 103 ] ولكن انتشار الإسلام فيها لم يتسم بالشمول والأغلبية، فبقيت منطقة محتلة، وعندما تخلصت من سلطان العثمانيين السياسي تحول المسلمون فيها إلى أقليات مضطهدة.

ولكن لا يخفى أن انتشار الإسلام السلمي في شرق آسيا ضم إلى العالم الإسلامي أندونيسيا وماليزيا . كما أن انتشار الإسلام بين قبائل التتار في وسط آسيا أدى إلى زيادة رقعة العالم الإسلامي في منطقة واسعة خضعت للنفوذ الروسي، لكنها ظلت محافظة على طابعها الإسلامي، حيث يشكل المسلمون الأغلبية الساحقة في تركستان وطاجيكستان .

إن عدم مشاركة المسلمين الداخلين في الإسلام متأخرا - في القرون التي تمزقت فيها قوة الإسلام السياسية والعسكرية - في صناعة أحداث التاريخ الإسلامي في القرون الأولى، لا يمنع من إحساسهم التاريخي بها وتعلقهم برموزها وخاصة عصر السيرة والراشدين.

فالتاريخ المشترك لا ينحصر بالمشاركة في الواقع التاريخي فقط، بل يتعداها إلى الإحساس الوجداني الذي تغذيه العقيدة الإسلامية.

إن الالتحام وتوحد الموقف بين القوميات الإسلامية واضح في الأزمات التاريخية الكبرى، كما هـو واضح في الأزمات المعاصرة ( فلسطين وأفغانستان ) .

إن أثر السلاجقة في الدفاع عن العالم الإسلامي في القرن الخامس والسادس الهجريين، سواء بمواجهة الروم أو الصليبيين، وتصدي المماليك بمصر لموجة التتار والصليبيين، وحماية العثمانيين للعالم الإسلامي عدة قرون، كلها أدلة قوية على تلاحم الشعوب الإسلامية ووحدة تاريخها.

ولكل قومية إسلامية الحق في توحيد أبنائها على أن لا تستخدم العصبية العنصرية في سبيل الوحدة، تمهيدا لالتقاء القوميات في كيان أوسع، وهو كيان يحقق لها مصالحها الكبرى بتنسيق اقتصادياتها ومحاولة الاكتفاء. [ ص: 104 ] الغذائي والصناعي بالتكامل والتنوع في خططها الاقتصادية، كما يحقق لها ثقلا دوليا يوازي أعدادها البشرية ومساحتها الجغرافية وقدراتها الاقتصادية.

إن الكيان المطلوب لن يمنع نشأة آداب بلغات محلية إلى جانب اللغة العربية التي تترشح أن تكون لغة الجميع بحكم كونها لغة القرآن والحديث، ولتقبل الشعوب الإسلامية لها وتعلقها بها، ورغبتها في تعلمها مما لا تحظى به أية لغة قومية أخرى، وبالتالي فلن تتنافس اللغات المحلية معها. إن هـذا التصور لا يعكس تغليبا لمصلحة قومية معينة، بل إنه محاولة لإيجاد لغة واحدة يتقبلها الجميع، وهي تشبه الاقتراحات المعاصرة بإيجاد لغة تفاهم عالمية إلى جانب اللغات القائمة في عصرنا.

ومن الطبيعي الإقرار بأن وحدة الأمة الإسلامية مطلب شرعي، ولكن أهداف الشريعة قد لا تتحقق إلا بخطوات متدرجة مرحلية، ومن هـنا ينبغي تأييد رفع الحدود أو تخفيف القيود بين الأقطار العربية أو غيرها من القوميات الإسلامية، مما يعتبر توجها تقدميا يحقق من المصالح القدر الذي تسمح به الظروف الحاضرة، ولا يحول دون التوسع مستقبلا نحو شكل كونفدرالي ثم فدرالي ثم اندماجي ، وقد يحتاج ذلك إلى تطور المنطقة حضاريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا خلال عقود عديدة للوصول إلى تحقيق أهداف الإسلام الشاملة.

إن تحقيق التفاهم والتنسيق بين الأقطار العربية وانفتاحها على بعضها اقتصاديا وسياسيا هـو مرحلة أساسية في البناء الإسلامي الكبير، وينبغي أن يتعاون المسلمون جميعا في إسناد التوجهات الوحدوية في المنطقة حتى بأشكالها الأولية.

إن أحداث التاريخ تمضي بظروفها الخاصة، ومن الوهل أن نعتبر الحرب سبيلا للوحدة لمجرد أن حرب بروسيا مع فرنسا كان سببا في الوحدة الألمانية. [ ص: 105 ] إن الطريق الحقيقي للوحدة هـو الوعي العميق في أوساط النخبة والجمهور معا للحكم الشرعي، ثم للمصالح المترتبة عليه سياسيا واقتصاديا وعسكريا. أو بتعبير آخر لمصلحة نشوء حضارة في عالمنا الإسلامي.

إن بناء الوحدات القومية على أساس من العقيدة الدينية، يعطيها قوة معنوية دافعة، ويمنع اختراقها، ويقلل من التأثيرات الداخلية المتمثلة بالمصالح المحلية والنزعات القبلية عليها، ويجعل واجب حراستها نابعا من ضمير الأمة، ولو سلك العرب هـذا السبيل الذي بدأوه منذ بداية القرن العشرين ثم تخلوا عنه إلى المسالك العلمانية التي قلدت النموذج الغربي، لكان تيار الوحدة قد بلغ من وجدان الأمة ونخبتها مبلغ النضج، بل ربما كانت آمالهم قد تحققت خلال عقود بدل الصراع الذي خاضته النخبة المثقفة بثقافة الغرب والمتسلحة بأيديولوجياته مع جماهير الأمة وضمير الشعب، بسبب محاولة غرس نبتة غريبة لم تستطع التأقلم مع الوسط العربي المسلم، رغم مرور سبعين عاما عليها. ألم يأن الأوان للتخلي عن منازعة الفطرة ومحاربة ضمير الأمة وكوامن طاقاتها الروحية بالتخلص من فكرة العلمانية ومحاولة فرضها، والتوجه الصادق إلى استثارة كوامن القوة في النفس المسلمة ومخاطبتها بلسان مقدساتها وحضارتها وثقافتها ومصطلحاتها وشعاراتها وتراثها.

إن الإغماض عن التوجه الصحيح في الخطاب الموجه للأمة لن يؤدي إلا إلى ضياع الزمن بالصراع المستمر داخل نفس الإنسان والبنية الاجتماعية، مما لا يولد أية نهضة حضارية حقيقية.

فمنذ 10 تموز (يوليو) 1881م كتب عبد الله النديم مخاطبا العرب: " كفاكم أن أشغالكم وأمتعتكم يقدمها إليكم الغربي وينزف بها ثروة بلادكم وأنتم لا تشعرون " [1] . ولا زال خطابه صالحا لمواجهة واقعنا رغم مرور أكثر من قرن على كتابته. [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية