الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي [الجزء الأول]

الدكتور / أكرم ضياء العمري

مشكلات دراسة تاريخ الاقتصاد الإسلامي

لا شك أن سائر السياسيات الاقتصادية في العالم الإسلامي مبنية على دراسة علم الاقتصاد، كما يعبر عنه الاقتصاديون الغربيون، حيث اعتبر علم الاقتصاد من العلوم الحديثة التي نشأت في أحضان الحضارة الغربية واعتبر آدم سميث أحد مؤسسي علم الاقتصاد الرأسمالي في حين اعتبر سان سيمون من أوائل الكتاب في الاقتصاد الاشتراكي، ولم يفطن علماء الاقتصاد المحدثون والمعاصرون وخاصة من المسلمين إلى جدوى البحث في تأريخنا الاقتصادي عن تطبيقات اقتصادية أو في تراثنا عن نظريات اقتصادية، رغم تخبطنا في سياسات اقتصادية منقولة عن تجارب الغرب أخفقت في إحداث تنمية حقيقية في المجتمعات الإسلامية، واكتفت بنقل نتائج التكنولوجيا الغربية دون المشاركة في أسرارها وأبحاثها، مما يطمئن العالم المتقدم إلى احتفاظه بأسواق العالم الإسلامي غير المنتج لتسويق بضائعه المتنوعة. ولعل علماء الاقتصاد في العالم الإسلامي لم يخطر ببالهم استقراء التراث الإسلامي الاقتصادي، ولو فعلوا لبهرتهم النتائج، فإن أول أمة عرفت التخطيط الاقتصادي نظريا وعمليا هـي أمة الإسلام في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ، عندما ألف الفقيه أبو يوسف القاضي للخليفة العباسي هـارون الرشيد - (حكم بين 170-193هـ) - كتاب الخراج وهو أقدم كتاب في المالية العامة يصل إلينا، وقد سبقه تاريخيا كتاب مفقود في الخراج وضعه [ ص: 138 ] أبو عبد الله معاوية بن يسار وزير المهدي الخليفة العباسي - (حكم بين 158-169هـ) - ولم تكن هـذه المساهمات المبكرة في الدراسات المالية والاقتصادية مجرد طرح نظري بعيد عن الواقع، بل كانت تهدف إلى ترشيد الواقع، فكان معاوية بن يسار مسئولا عن السياسة الاقتصادية في أكبر دول العالم آنذاك، وكان أبو يوسف قاضي قضاة الرشيد في العصر العباسي الذهبي، وقد ألف كتاب الخراج بناءا على طلب الخليفة الرشيد، مما يدل على معرفة المسلمين المبكرة بالتخطيط الاقتصادي، أفلا يستغرب بعد ذلك أن الأمة التي سبقت الأمم إلى التخطيط الاقتصادي صارت اليوم تعاني من الفوضى وعدم سلامة التخطيط الاقتصادي.

ولم تتوقف جهود العلماء المسلمين من الفقهاء والكتاب معا بعد محاولة معاوية بن يسار وأبي يوسف القاضي، بل استمرت المؤلفات في الخراج والمالية تتعاقب في الظهور حتى بلغت في فهرست ابن النديم ستة وعشرين مؤلفا في المالية، منها ستة عشر مؤلفا في الخراج اعتبارا من حفصوية الذي اعتبره ابن النديم أول من ألف في الخراج كتابا، وهو من طبقة الكتاب.

وعلى أية حال فقد مضى الفقهاء من ناحية، والكتاب العاملون في دواوين الدولة يؤلفون في المالية العامة، ويضيف اللاحق إلى السابق في عصور الازدهار الحضارية من تاريخ المسلمين، وهي الفترة التي تقابل العصور الوسطى الأوروبية (500-1500م) ، حيث لا نجد لدى الغربيين أية مساهمة في تاريخ الفكر الاقتصادي. ولا شك أن دراسة الواقع الاقتصادي في تاريخ الإسلام سيقدم توضيحات مهمة لكيفية مجابهة أسلافنا للمشكلات الاقتصادية، وتكشف عن القيم والنظم الاقتصادية ومدى الاستفادة منها في حياتنا المعاصرة. على أن مثل هـذه الدراسة للتاريخ الاقتصادي ليست سهلة ميسورة، بل تحتاج إلى باحثين من مستوى عال، للقيام بتمحيص المعلومات التي تقدمها المصادر القديمة ونقدها. لأن التسليم بما تورده المصادر دون نقد عميق واع سوف [ ص: 139 ] يوقع الباحثين في تناقضات ومشكلات عويصة. ورغم أن المقام لا يتسع للدخول في تفصيلات الموضوع، ولكن لا بد من التنبيه إلى بعض المشكلات التي ستواجه دراسات التاريخ الاقتصادي، منها ما يتعلق بصحة الأرقام والإحصائيات القديمة التي تذكرها المصادر، فقد ذكر القلقشندي [1] : أن الخليفة المقتدر خلف في بيت المال عند وفاته سنة 320هـ مبلغا يزيد على (60.000.000) دينار (ستين مليون دينار) ، فهل يمكن التسليم بهذا الرقم الضخم، مع أن الواقع التاريخي لعصر المقتدر يوضح شدة الأزمات المالية التي عصفت بالخليفة المقتدر نفسه لعجزه عن دفع المرتبات.

ويذكر ابن دقماق [2] : أن الخليفة المعتضد ترك في بيت المال حين وفاته سنة 298هـ مبلغ (90.000.000) دينار (90 مليون دينار) ، ومعروف من دراسة الواقع التاريخي أن مثل هـذا الوفر يعتبر مستحيلا. لذلك ذكر الدكتور عبد العزيز الدوري أنه ترك عشرة ملايين دينار فقط [3] .

ومن الأمثلة التي تشكك في صحة الأرقام ما يتعلق بواردات مصر إلى العاصمة بغداد ، ففي زمن المنصور - (ت158هـ) - بلغت (2.834.500) دينار [4] ، في حين هـبطت في عصر المتوكل - (ت247هـ) - أي خلال قرن واحد إلى مائتي ألف دينار [5] ، أي بنسبة 114، هـذا مع تدني القوة الشرائية للدينار عما كان عليه زمن المنصور. وإذا قارنا ذلك مع خراج [ ص: 140 ] مصر زمن أحمد بن طولون والبالغ (4.300.000) دينار [6] يتبين أن ثمة احتمال قوي في سقوط صفر من المليونين زمن المتوكل. أما الاحتمالات الأخرى فهو عدم دقة المصادر في النقل عن بعضها، فربما يذكر الرقم دون تمييز بالدراهم أو الدنانير، فيتبرع أحد المؤرخين بالتمييز دون دليل، فيقع التضارب في الإحصائيات والأرقام، أو التحريف والتصحيف الكثير في مصادرنا التراثية، لعدم العناية بتحقيقها علميا، مما يجعل الباحث يحتار أمام التعارض والتناقض.

ومن ذلك أن صاحب كتاب (العيون والحدائق) يذكر أن يعقوب الصفار أرسل إلى الخليفة المعتضد العباسي سنة 286هـ مبلغ 14 مليون درهم، في حين يذكر الطبري وابن كثير أن المبلغ هـو أربعة ملايين فقط [7] والرقم الأخير ينسجم مع أرقام المبالغ التي أرسلت إلى المعتضد في السنوات الأخرى.

وقد ذكر سبط ابن الجوزي أن إجمالي الخراج السنوي لمصر في حكم أحمد بن طولون يقارب (4.300.000) دينار [8] ، في حين يذكر ابن تغري بردي أن سائر نفقات مصر والشام خلال حكم أحمد بن طولون تقارب (2.511.100) دينار [9] بمعنى أن إجمال الإنفاق طيلة حكمه يقارب نصف الخراج السنوي فقط، وهكذا يقع التضارب بين المصادر.

والاعتماد على الأرقام قد يوهم بوجود ظواهر اقتصادية خطيرة، ومع ذلك فإن المصادر [ ص: 141 ] التاريخية لم تشر إليها إطلاقا، فماذا يفعل دارس التاريخ الاقتصادي؟

لقد ذكر الأبشيهي أن الرشيد كان ينفق على طعامه (10.000) درهم يوميا درهم [10] في حين ذكر العيني أن ثمن الجزور في خلافة الرشيد يبلغ (400.000) ، [11] أي أربعين ضعف نفقات الرشيد على الطعام، ويلاحظ أن نفقات المأمون اليومية بلغت (6.000) دينار، بسعر صرف 15 درهم لكل دينار [12] ، أي عشرة أضعاف نفقات الرشيد، ألا يستنتج الباحث وجود تضخم مالي في عصر المأمون؟ هـذا ما توحي به الأرقام، أما الواقع التاريخي فلا يشير إلى ذلك.

ثم ماذا يفعل الباحث الاقتصادي عندما تتطابق أرقام النفقات الخاصة للخلفاء في عصر الرشيد والمنتصر والمستعين والمعتز ، فتقف عند رقم (10.000) درهم في اليوم [13] لا تزيد ولا تنقص، مع أن الرشيد حكم العالم الإسلامي في قارتين هـي آسيا وأفريقية ، في حين حكم المستعين بغداد وحدها، فهل يقدر على مثل نفقة الرشيد؟ أم هـو الوهم في النقل وقع فيه المؤرخون القدامى؟

ومن المفارقات الغريبة أن إجمالي رواتب الجند في خلافة المستعين بلغ سنة 248هـ (2.000.000) (مليوني دينار) ، وبلغ سنة 252هـ (200.000.00) (مائتي مليون دينار) [14] وقد يعلل ذلك بوقوع تضخم نقدي، لكن هـذا التعليل ساذج، إذ لا يمكن أن يكون التضخم (مائة ضعف) . [ ص: 142 ] ولكن مشكلة تعارض الأرقام وتضارب الإحصائيات القديمة لن تعيق دراسات التاريخ الإسلامي الاقتصادي، فالصبر والدأب والوعي يكفلون الوصول إلى رسم المسيرة التاريخية الاقتصادية لأمتنا، مما يضيف رصيدا طيبا إلى معلومات المصادر المتخصصة بالمالية العامة والمتمثلة بكتب الأموال والخراج.

إن الدراسات الإسلامية الاقتصادية المعاصرة خطت خطوات طيبة في شرح معالم النظام الاقتصادي من خلال النصوص الموحى بها في الكتاب والسنة، وهي بحاجة إلى استقراء دراسات الاقتصاديين من الفقهاء ومن طبقة الكتاب، وإلى استقراء واقع التاريخ الاقتصادي للعالم الإسلامي. إن هـذه الدراسة التاريخية ستكشف عن حقائق هـامة مؤثرة على نظرتنا المعاصرة منافية للعوامل السلبية التي يلصقها بعضنا بالإسلام وتراثه واعتباره عامل تأخير وتعويق أمام نهضة الأمة.

إن البعض يرى في الإيمان بالقضاء والقدر سببا لهزائمنا الحضارية، بل والعسكرية، وهذا البعض يغمض عينيه عن الحقائق التاريخية الدامغة، فالمؤمنون بالقضاء والقدر سحقوا تاريخيا أعظم إمبراطوريتين عاصرتهم؛ الفرس الساسانيون والروم البيزنطيون. وأشادوا أعظم حضارات العالم القديم منظمين الإرواء بطريقة رائعة مستخدمين في ذلك هـندسة متقدمة جدا كما في تنظيم مياه حدائق غرناطة " جنراليف " ، وكما في تنظيم الري في منطقة السواد جنوب العراق، حيث أنشئت القنوات التي قدر عددها بمائة ألف قناة.

إن دراسة خطط بغداد وقرطبة وغرناطة والقاهرة ، تكشف عن القدرة العالية على الإبداع وحسن التخطيط والتنظيم، وبالمقارنة مع مدن أوروبا في العصور الوسطى يبدو الفرق ضخما، حيث كان ببغداد أربع مستشفيات في العصر العباسي الثاني، في حين لم يكن بباريس سوى طبيب واحد، وكانت شوارع [ ص: 143 ] بغداد مرصوفة بالآجر مضاءة بقناديل الزيت، في حين كانت شوارع باريس موحلة مظلمة.

ولو درسنا موارد الدولة الإسلامية في العصر الذهبي لأدركنا مدى الازدهار التجاري والزراعي والصناعي، وهذا كله عندما كانت الأمة متمسكة بعقيدتها الدينية وشريعتها السماوية. [ ص: 144 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية