الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي [الجزء الأول]

الدكتور / أكرم ضياء العمري

الفصل السابع

أثر العلماء في بناء المجتمع الإسلامي

قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) (آل عمران: 187) .

ألقى الإسلام مسئولية عظمى على العلماء، فهم بحكم وعيهم بمضامين الوحي الإلهي، وفهمهم لأحكام الشريعة ومقاصدها، واطلاعهم على نصوص الكتاب والسنة، ومعرفتهم بشروح علماء السلف لها، وقدرتهم على توجيهها والاستنباط منها، وحل معضلات الحياة العصرية على ضوئها، لهذا كله تعظم مسئوليتهم كلما اشتدت الحاجة إليهم، وهي تشتد وتقوى بانحسار الوعي الإسلامي العام في المجتمع، وفقدان القيم الدينية والأخلاق المبنية عليها، وضعف الأواصر بين الناس وبين الأصول الإسلامية المتمثلة بالكتاب والسنة، وانحدار مستوى اللغة العربية السائدة، مما يولد العجز أو الضعف عن فهم الأصول. ولا شك أن مهمة العلماء المتخصصين في دراسة الإسلام وشريعته لا تنحصر في الفتاوى التي تصدر عنهم في بيان الحلال والحرام من أحكام الشريعة في الأحوال الشخصية وبعض الحدود والعقوبات وبعض أحكام المعاملات، بل تتعدى ذلك إلى تثبيت العقيدة الإسلامية [ ص: 145 ] والمعاني الإيمانية والكليات التي تشعر المسلم بأهمية الإسلام في ملء ثقافته وإشباع روحه وتحديد هـويته ورسم معالم حياته الخاصة والعامة، وجعله يحس بالاكتفاء والاستغناء عن ( الإيديولوجيات ) الجاهلية التي سيطرت على أرجاء المعمورة وغزت العالم الإسلامي في عقر داره.

من أجل ذلك لا بد أن تقوم النخبة المؤمنة من علماء الأمة بإعادة بناء ما تهدم من حصون المجتمع الإسلامي وبث روح النهضة فيه ودفعه إلى طريق الحضارة والتقدم، ولا بد أن تكون هـذه النخبة على قدر كبير من الوعي العميق والإحاطة الشاملة بنصوص الكتاب والسنة، مع البصيرة بواقع الحياة الحديثة، وعدم الانغلاق والاعتزال أو الجنوح إلى الروحية الاعتزالية، بحجة القيام بالعبادات الفردية كنوافل الصلاة والصوم والذكر والتفكر والتدبر، فهذه العبادت وإن أثيب صاحبها لكنها مفضولة إذا قورنت بالدعوة إلى الإسلام وتعميق معاني الإيمان في نفوس الناس وخاصة في هـذا العصر الذي طغت فيه الجهالة بالإسلام وتعاليمه وانحسر أثر الإيمان عن الحياة، وحل التناقض والثنائية في نفس الفرد المسلم وفي مؤسسات المجتمع الإسلامي، فلا غرابة أن تعظم مكانة الدعوة إلى تجديد الإيمان وتأسيس المجتمع على قواعده.

يقول ابن قيم الجوزية : " والعالم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر، مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح " [1] . وقد كتب عبد الله العمري أحد العباد الصالحين إلى مالك بن أنس يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم،

وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، [ ص: 146 ] وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر " [2] ويقول أبو حامد الغزالي : " اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليا في هـذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي " حتى قال: " وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده. ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الباقين، وإلا عم الحرج الكافة أجمعين، أما العالم فلتقصيره في الخروج، وأما الجاهل فلتقصيره في ترك العلم " [3] .

ولا شك أن العالم يؤثر في الناس على قدر صلاحه وتقواه وعباداته وطاعته لله، فهو إسلام يمشي على رجلين، ونجم يسطع ضياؤه لينير الدروب أمام السالكين، فلا بد أن يأخذ نفسه بالحق ويقومها على الصدق ويغذيها بالورع ليكون بعمله داعيا إلى الحق قبل قوله، ولئلا يكون في مخالفته للحق حجة عليه، فيرد الناس كلامه لأنهم يقولون لو كان كلامه صدقا لأخذ نفسه به، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان: ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه ) [4] [ ص: 147 ]

فالعالم وطالب العلم الشرعي ينبغي أن تظهر على سلوكه وكلامه وسمته آثار حمله للأمانة الإلهية والرسالة المحمدية. قال الإمام الأوزاعي : " كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا، فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ " [5] . وليس معنى هـذا أن العالم لا يخطئ فكل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون، ولكن معناه أن العالم يجتهد في مجاهدة نفسه والارتفاع بسلوكه ليكون قدوة صالحة للناس، وإلا كما يقول الإمام سعيد بن المسيب : " لو كان المرء لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء - يعني من العيب- ما أمر أحد بالمعروف ولا نهى عن منكر " [6] . ومن لوازم مخالطة العالم للناس وبيان الحق لهم أن يكون متصفا بسعة الأفق ورجاحة العقل والثقافة الشرعية والواقعية، والصبر على أذاهم والرفق بهم، وقد وصف الشيخ عبد القادر الجيلاني أمثال هـؤلاء العلماء الدعاة بقوله: " يدلون الخلق، ويصبرون على أذاهم، مع دوام النصح لهم، يبتسمون في وجوه المنافقين والفساق، ويحتالون عليهم بكل حيلة حتى يخلصوهم مما هـم فيه، ويحملوهم إلى ربهم عز وجل " [7] .

ولا شك أن من دواعي نجاح العالم القيام بحقوق الناس والشفاعة لهم في استحصالها، والنظر في مصالحهم، فتبني مصالح الأمة والدفاع عنها والاهتمام برعاية الفقراء، وسد حاجة المحتاجين، وإرشاد الأغنياء إلى أعمال الخير، [ ص: 148 ] وتبني المصالح الاجتماعية العامة والإنفاق عليها، كل ذلك يجعل لأهل العلم مكانة في المجتمع وأثرا في توجيهه نحو مثل الإسلام العليا في الحياة. وقد كان الأئمة من علماء السلف ينبهون المسؤولين من حكام عصرهم إلى مصالح الرعية، ويتلطفون في الوصول إليها، فقد لاحظ الإمام الأوزاعي أن المرتبات التي تصرفها الدولة لأهل ساحل الشام لا تفي بحاجاتهم الضرورية، مع أنهم يقفون على ثغور الإسلام البحرية المطلة على البحر المتوسط، فما كان منه إلا أن كتب إلى الخليفة المهدي العباسي يقول: " أما بعد، ولى الله لأمير المؤمنين أموره بما ولى به أمور من هـدى واجتبى، وجعلهم به مقتديا، فإن أمير المؤمنين - أصلحه الله - كتب إلي ألا أدع إعلامه كل ما فيه صلاح عامة وخاصة، فإن الله عز وجل يأجر على من عمل به، ويحسن عليه الثواب، وأنا أسأل الله عز وجل أن يلهم أمير المؤمنين من أعمال البر ما يبلغه به عفوه ورضوانه في دار الخلود، وقد كان أمير المؤمنين - حفظه الله - قصر بأهل الساحل على عشرة دنانير في كل عام سلفا من عطاياتهم، وأمير المؤمنين - أصلحه الله - إن نظر في ذلك عرف أنه ليس في عشرة دنانير لامريء ذي عيال عشرة أو أدنى من ذلك أو أكثر كفاف، ولو أجرى عليهم أمير المؤمنين أصلحه الله في أعطياتهم سلفا في كل عام خمسة عشر دينارا... ثم ذكر مكانتهم في حماية ثغور المسلمين البحرية وما يعانونه من حر الصيف وبرد الشتاء ويذكره بأنه راع ومسئول عن رعيته. ثم يقول: وقد قدم علينا رسول أمير المؤمنين - عافاه الله - بالعطية من النفقة والكسوة التي أمر أمير المؤمنين - عافه الله - بقسمها في أهل الساحل، فقسمناها فيهم من دينار لكل رجل ودينارين، [ ص: 149 ] وقل المال عن اليتامى والأرامل فلم يقسم فيهم منه شي. وإن رأى أمير المؤمنين - أصلحه الله - أن يبعث بما يقسم فيهم فعل " [8] . وقد كانت رسائل الأوزاعي إلى خلفاء عصره تترى يذكر لهم فيها ما يصيب الأمة من ضنك المعيشة أو اضطراب الأمن أو هـجوم الأعداء عليهم، كما فعل عندما غلت الأسعار بمكة ، فكتب إلى المهدي، وكان وليا لعهد المنصور يطلب منه معونتهم، وإلا هـلكوا جوعا ويضرب له المثل بما فعل عمر بن الخطار رضي الله عنه عام الرمادة، عندما حلت المجاعة بالمسلمين. ولم يقتصر الأوزاعي على الدفاع عن حقوق المسلمين، بل تعدى ذلك إلى حقوق بقية المواطنين الذميين، فلما أجلى صالح بن علي (ت151هـ) ، والي الشام العباسي، بعض نصارى أهالي جبل لبنان بجريرة بعضهم، كتب إليه الأوزاعي يقول: " كيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [الأنعام164]، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال: ( من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه ) [9] . ومن يراجع ترجمة الأوزاعي في كتاب الجرح والتعديل للرازي يجد نماذج أخرى من هـذه الرسائل التي تتبنى مصالح الرعية في سائر ديار الإسلام. فلا شك أن الأوزاعي في تبنيه لمصالح الأمة قدوة للعلماء ولطلبة العلم في كل زمان ومكان، وليس هـو النموذج الوحيد، فما أكثر رجالات هـذه الأمة الصالحين للاقتداء بهم، فقد كان القاضي أبو يوسف ممن اهتم [ ص: 150 ] بالمستضعفين من الفلاحين ودافع عنهم وطالب بتحقيق العدالة في معاملتهم ومحاسبة الجباة إذا أساءوا إليهم، وذلك في كتاب " الخراج " الذي ألفه للخليفة العباسي هـارون الرشيد .

وكان العلماء هـم قادة المسلمين في أوقات الشدة والنوازل والأخطار، وقد برهن العديد منهم على جدارتهم وشجاعتهم في قيادة الناس، من ذلك أن الفقيه أبا القاسم مسعود بن محمد الخجندي الذي عاش في أصبهان ، لما رأى قوة الباطنية وتهديدها لأهل أصبهان بعد أن اغتالت نظام الملك وولده، فخر الملك وشحنة أصبهان، حتى أصاب السكان الخوف والهلع، قام هـذا العالم بجمع وجهاء أصبهان وحشد الناس بالأسلحة وأمرهم بحفر الأخاديد لحرق الباطنية [10] . وبذلك عاد الأمان إلى أصبهان وانحسرت شرور الباطنية بجهود هـذا الفقيه الذي قام بسد الثغرة الأمنية في بلده عندما انشغلت الدولة عنها بمشاكلها الأخرى [11] .

ولا تنحصر نماذج العلماء الربانيين في عصور الإسلام الأولى، بل تمتد إلى الأجيال اللاحقة. فهذا ابن كثير (ت774هـ) الذي عاش في دولة المماليك البحرية، يقف في مواجهة المرسوم السلطاني بمصادرة أملاك أهل الذمة داخل البلاد (648-784هـ) ، انتقاما لما صنعه الفرنج في هـجومهم على الإسكندرية سنة 767هـ، فنصح ابن كثير السلطان بتعطيل القرار لمخالفته الشريعة والتزم السلطان برأيه [12] . وكان علماء السلف يحثون بعضهم ويتواصون بالبعد عن طلب المال [ ص: 151 ] والجاه والحرص على المناصب، وذلك لأن الحرص على الدنيا يذل العلماء، ويضعف مكانتهم بين الناس، ويشكك في صحة أقوالهم ودعوتهم، ويصرف الأمة عنهم، لذلك فضل كثير من علماء السلف أن يمارسوا مهنا حرة، تسد حاجتهم، وتمنع وقوعهم في ذل السؤال، وتنأى بهم عن الضعف أمام الأقوياء المحسنين، ليجرؤا على قول الحق لهم، وقد قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) (آل عمران: 187) . وقد وجد الإمام الحسن البصري بعض العلماء واقفين على باب ابن هـبيرة الوالي على العراق فنهرهم وقال: " فضحتم العلماء فضحكم الله " . وكان سفيان الثوري يقول: " المال داء هـذه الأمة، والعالم طبيب هـذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس؟ " .

فينبغي لطالب العلم أن يكون عزيزا بالله مستغنيا عن الخلق، قادرا على الكسب، بعيدا عن السؤال، قانعا بالقليل، لا يغرق نفسه وأهله بالكماليات، فتشتد حاجته للمال فيطلبه من كل طريق، فيفقد مكانته بين الناس.

ومن منهج علماء السلف الابتعاد عن مجالسة أهل الأهواء والبدع، لئلا يغتر بهم العامة فيحسبونهم على خير، وكثيرا ما كان العلماء يحذرون من أهل الأهواء ويقاطعونهم ويأمرون الناس بمقاطعتهم. قال الإمام أحمد لمسدد ابن مسرهد : " ولا تشاور أهل البدع في دينك، ولا ترافقهم في سفرك " .

وكانوا يحاصرون الأفكار المخالفة للعقيدة الإسلامية. يقول سفيان الثوري : " من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم " [13] ، [ ص: 152 ] ويقول الحافظ الذهبي معقبا: " أكثر أئمة السلف على هـذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة " [14] . وأما إذا شاعت الأفكار المخالفة للعقيدة الإسلامية بين المسلمين، فلا بد للعلماء من مناقشتها وتفنيدها وبيان بطلانها، على أن يتولى ذلك أصحاب الأقلام القوية والحجج المتينة والاطلاع الواسع، فكم من مدافع عن العقيدة سرد الشبهات وعجز عن ردها، فكأنه أعان على نشرها وانتصر لها بعجزه عن تفنيدها.

إن الثقافة الواسعة والبصيرة النافذة لا تكون إلا لمن وثق صلته بالكتاب والسنة وفقههما، وعرف الواقع عن كثب، وإلا فكيف يبين العالم حكم الله في المعاملات وهو لا يعرف إلا المعاملات التي كانت تجري في القرون الأولى، أما قواعد المعاملات في هـذا العصر فلا يعرف عنها شيئا، وكيف يراعي قواعد الشريعة ومقاصدها في رعاية مصالح الأمة إذا لم يكن على صلة وعلم بالواقع.

وقد وقع البعض من طلبة العلم في التشدد والتنطع حتى أنسوا الأمة يسر الدين وسماحة الشريعة، وتساهل آخرون حتى أضاعوا حدود الإسلام ونقضوا قواعده، وقد قال ابن تيمية : " وأهل السنة والعلم والإيمان، يعلمون الحق، ويرحمون الخلق " . وعندما سئل سفيان بن عيينة عن الزهد قال: " الزهد فيما حرم الله، فأما ما أحل الله فقد أباحكه الله، فإن النبيين قد تزوجوا وركبوا ولبسوا وأكلوا، لكن الله ينهاكم عن شيء فانتهوا عنه " [15] . وكان ابن الجوزي يصف أهل العزلة من المتظاهرين بالزهد البعيدين عن مواجهة مشكلات المجتمع المنقطعين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: [ ص: 153 ]

" الزهاد في مقام الخفافيش، فقد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إن لم تمنع خيرا من لزوم جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض، إلا إنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام " . وقال ابن القيم : " الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته، وقوفه في الصف ساعة، وجهاد أعداء الله، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع " ، وقال الحسن البصري لفرقد السبخي - وكان من الزهاد -: " يا ابن أم فرقد إن التقوى ليس في هـذا الكساد، إنما التقوى في القلب وصدقه العمل " . وقد أوضح الحسن البصري وسطية الإسلام وموازنته بين التشدد والتساهل فقال: " دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو " .

إن بعض المنتسبين إلى العلم يتتبع الرخص ويأخذ بها، ويعيش بعيدا عن الأمة ومشكلاتها، فينصرف إلى نفسه وراحتها، ويعرف الحق فلا ينصره، ويبصر المنكر فلا ينكره، وقد نسي هـؤلاء أن العالم ليس كسواه في الترخص لنفسه، بل عليه أن يأخذ بالعزيمة لأنه موضع قدوة، فلو ضل عن الحق وتابع الباطل وانتصر للأهواء، فإن عامة الأمة تتأثر به فيحمل أوزار من يضل بسببه مع أوزاره. فلا بد للعالم من بيان الحق وتوعية الأمة بمقاصد الشريعة وتعريفها بأحكام الدين وعقيدة المسلمين. قال الإمام أحمد بن حنبل : " إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟ " .

لقد كان للعلماء أثر كبير عبر مراحل التاريخ الإسلامي في نشر تعاليم الإسلام ونقلها عبر الأجيال المتلاحقة حتى انتهت إلينا، وبذلك حافظوا على هـوية المجتمع الإسلامي وخصائص الشخصية الإسلامية. وقد أفاد علماء السلف من كل الوسائل المتاحة في عصورهم لنشر العقيدة وتعاليم الشريعة، فلم يقتصروا على وسيلة واحدة، فكانوا يقومون بفتح المدارس والتعليم فيها، وإنشاء المكتبات وفتحها أمام طلبة العلم، وكان أغنياؤهم يجرون الجرايات على طلبة العلم ليتفرغوا للعلم وطلبه، [ ص: 154 ]

وقد تعاهد أبو حنيفة أبا يوسف سبع عشرة سنة ينفق عليه حتى حمل من العلم ما نفع به دولة الإسلام في عصر الرشيد [16] . وقد أرسل الخليفة المتوكل للإمام أحمد بن حنبل عشرة آلاف درهم، مع أحد حجبته، فامتنع الإمام أحمد عن أخذها، فلما ذكره الحاجب بأن عدم أخذه للمال قد يؤدي إلى الوحشة بينه وبين الخليفة، قام بتوزيع المبلغ كله على المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم فلم يبق منها درهم واحد، ولم يعط لأهله منها شيئا وهم في غاية الفقر والجهد [17] . وكان أغنياء العلماء يصلون فقراءهم، فكان الليث بن سعد يصل العديد من علماء عصره بالمال، وكان يمتلك أرضا زراعية وأموالا كثيرة فكان ينفق منها على أهل العلم [18]

ومن المجالات التي خدمها علماء السلف العناية بالعلوم الإسلامية والتأليف فيها وصرف الأموال الطائلة في هـذا السبيل، سواء بالقيام بالرحلات العلمية لجمع العلم أو بجمع الكتب الكثيرة في مكتباتهم والإفادة منها في التأليف وقد بارك الله في جهودهم فأثمرت مكتبة هـائلة في شتى علوم الإسلام والعربية رغم أن ما فقد منها أكثر مما وصل إلينا.

وكان العلماء يعقدون الحلقات العلمية في المساجد ويدرسون فيها، كما كان لبعضهم دروس وندوات في بيوتهم. وكان العالم إذا اكتشف موهبة وملكة عند أحد طلبة العلم تعاهده بالرعاية الخاصة وأوصى به أصحابه من علماء عصره، فأثمر ذلك تتابع ظهور القيادات العلمية ذات المستوى العالي في المجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل. [ ص: 155 ] واستخدم علماء السلف المكاتبة والرسائل لتبادل المعلومات فيما بينهم وتقديم النصح لحكام عصرهم، وهكذا استنفد العلماء الوسائل المعروفة للاتصال في عصرهم. وكانوا يتنقلون بين القرى والبوادي لتعليم الأعراب والفلاحين تعاليم الإسلام.

ولا شك أن وسائل الاتصال في هـذا العصر قد تنوعت وقويت وصار تبليغ العقائد والأفكار يتم عن طريق الإذاعات والتلفزة والصحافة الواسعة الانتشار والمؤلفات ذات المواصفات الفنية العالية، مما يستتبع ضرورة نشر الدعوة الإسلامية في هـذا العصر بالوسائل الحديثة، إذ لا يعقل أن يستغل الأعداء كل إمكانيات العصر ويقتصر المسلمون في تبليغ دينهم على وسائل الاتصال الضعيفة التقليدية. ويعتمد نشر الفكر في هـذا العصر على الدعاية المرتكزة على دراسات علوم الإعلام والنفس والاجتماع وغيرها، مما يحقق لها النجاح والانتشار، ومن واجب العلماء أن يفيدوا من ثمرات العلم والتقدم ومن علوم العصر في نشر العقيدة الإسلامية.

وسوف نتابع في الجزء الثاني، دراسة لثلاثة نماذج تتناول شرائح اجتماعية من النخبة والعامة،

إحداهما : تتناول النخبة وهم فقهاء القرن الأول الهجري في المدينة المنورة .

والثانية : تتناول العامة في بغداد في أواخر العصر العباسي والعهد الإيلخاني.

والثالثة : تتناول المجتمع والسلطة في الأندلس في مرحلة التدهور والسقوط.

وكل نموذج يمثل مفارقة واضحة مع الآخر، رغم أن دائرة القيم واحدة. [ ص: 156 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية