الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني :أهمية التفكير وعلاقته بعملية الروح

          من أهم وظائف العقل البشري: التفكير والتأمل والنظر، وإذا تعطلت هـذه الوظائف تعطل نشاط العقل ونموه وقدرته على العطاء، ويتبع ذلك توقف النشاط البشري وجموده بل وفناؤه.

          التفكير هـو وسيلة العقل في فهم قوانين الحياة وعلل الكون وسنن الله في خلقه. ولولا التفكير ما تطورت البشرية ونهضت منذ فجر حياتها الأولى، ولهذا دعا الحديث النبوي إلى التفكير والتفكر في آيات الله تعالى وفي بديع خلقه. فالتأمل والتفكير في خلق الله من أفضل أنواع العبادة.

          والتفكير في آيات الله وفي بديع خلقه وفي النظام المحكم الذي يتحرك فيه الكون وفي القوانين الثابتة التي تتحكم في جميع الظواهر الكونية كفيل بأن يؤدي إلى الإيمان بخالق هـذا الكون ومدبره.

          وكذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتفكير في خلق الله ونهى عن التفكير في ذات الله، لقصور العقل الإنساني عن إدراك ما هـو خارج نطاق قدرته. فالله [ ص: 117 ] تعالى ليس كمثله شيء، والعقل الإنساني إنما يفكر على أساس ما لديه من صور حسية، فوسيلة العقل إلى الله وإلى معرفته هـي تدبر الظاهر للحس.

          وقد أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بالعقل الذي يقوم بوظيفة التفكير، ويمكن أن نسوق مثالا حيا على ذلك حديث النخلة. ( فعن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هـي» ؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هـي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة ) [1] .

          بتحليل هـذا الحديث نلمس بوضوح تام الخطوات الرئيسة لعملية التفكير، التي سبقت إليها السنة النبوية وأثبتتها النظريات الحديثة، على النحو التالي:

          1- أثار هـذا الحديث مشكلة أمام الصحابة ليفكروا في حلها، وهي التوصل إلى معرفة الشجرة التي لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، مع استخراج أوجه الشبه بين المسلم وتلك الشجرة.

          2- شرع الصحابة في البحث عن حل هـذه المشكلة في ضوء خبراتهم السابقة بالأشجار.

          3- ثم بدأوا يزنون فروضهم ويقارنون في أذهانهم أوجه الشبه بين تلك الأشجار والمسلم. [ ص: 118 ] 4- توقع الناس أن الشجر المقصود هـو شجر البوادي.

          5- توصل أحدهم إلى الحل العلمي الصحيح بعد تمحيص فروضه بدقة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عندما هـداه تفكيره إلى أن الشجرة المقصودة هـي النخلة ولكن غلبه الحياء فلم يبد الإجابة.

          ففي هـذا الحديث درب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على خطوات التفكير المستنير بإعطائهم المثال الحي الذي يمكن الاقتداء به في مختلف عمليات التفكير.

          ولتبين علاقة التفكير، عمل العقل، بالروح الإنسانية يحسن بنا الإجابة عن هـذا السؤال: من الذي يحكم الحياة ويوجهها ؟

          وفي تقرير الجواب نذكر أن كشوف العلم كلها ومخترعاته ليست هـي التي توجه الحياة أو التي تحكمها، إنما الذي يوجهها ويحكمها هـو طريقة الاستفادة من كشوف العلم ومخترعاته، أفي سبيل الخير أم في سـبيل الشر؟ أو في سبيل السلم أم في سبيل الحرب؟ والعقل يميز ولا شك بين الخير والشر، ولكن ليس هـو الذي يقرر الطريق. فكثيرا ما قرر عقل الإنسان أن كذا من الأمور خطأ ولا يجوز فعله ثم اندفع إليه لانحراف روحه وانزلاقها مع الشهوات. فالعقيدة، الإيمان، هـي التي تقرر والعقل يميز.

          العقيدة المهتدية تقرر الخير وتسخر العقل ليسير في طريقه، والروح المنقطعة الضالة تقرر طريق الشر وتدفع بالعقل في ذلك الطريق. وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ( بقوله: «قل آمنت بالله فاستقم ) [2] . [ ص: 119 ] نفهم من هـذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى التفكير الواعي المتبصر بما يقوي العقيدة ويرسخ الإيمان ويهدي المسلم إلى سواء السبيل في الدين والدنيا، لأن العقيدة هـي التي تقرر الطريق إلى صراط الله المستقيم.

          إن الإسلام دين الفطرة، يحترم الطاقات البشرية كلها، فهي هـبة الله المنعم الوهاب، وهو يعطيها أقدارها الصحيحة لا يبخسها قدرها ولا يرتفع بها فوق منـزلتها التي تستحقها، ويستغلها جميعا إلى أقصى طاقتها لفائدة المخلوق البشري وصلاح حاله على الأرض ومن ثم يحترم الطاقة العقلية ويشجعها ويربيها لتتجه في طريق الخير.. ولكي يصل إلى ذلك فإنه يمزجها بمزيج الإيمان، وإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: كيف يوجه الإسلام الطاقة العقلية في معالجة حقوق الإنسان؟

          التالي السابق


          الخدمات العلمية