الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الأول: حرية الإنسان أمام الله والكون

          الحرية هـي الحركية اللامحدودة، أي الحركية المطلقة، وتتمثل هـذه الحركية في «الكلمة الإلهية» الخلاقة، التي هـي تذكرة بالحركة الدائمة ووعي شامل بالحرية المطلقة. وهذه الكلمة خلاقة لأنها محركة ومحررة. فتنبع الحرية إذن من الكلمة الإلهية وهي حرية مطلقة [1] .

          وهنا يبدو أن الله سبحانه وتعالى هـو مصدر الحرية، وليس مصدرها الإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحرية التي مصدرها الله سبحانه تعالى تتعلق بالإيمان بالقدر، لكن ما المراد بالقدر؟

          قال ابن منظور: القدر: القضاء الموفق [2] .

          ويكفينا ما جاء به الجرجاني، علي بن محمد بن علي من تعريف القدر وهو: «خروج الممكنات من العدم إلى الوجود، واحدا بعد واحد، خروجا مطابقا للقضاء. فالقضاء وجود الممكنات في العلم الإلهي مجتمعة والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها». [3] .. ومما يشهد لهذا المعنى [ ص: 51 ] ( قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة ) [4] .

          هذا الحديث يشير إلى وجوب الإيمان بالقدر، وبهذا أيضا ( جاء حديث عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، الذي عرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) [5] .

          وقد يسأل سائل هـنا،: ما العلاقة بين الإيمان بالقدر، أو إرادة الله المطلقة، بمبدأ حرية الإنسان؟ هـل حرية الإنسان مسلوبة بالإيمان بالقدر؟ هـل هـناك وجه للتوفيق بينهما؟

          في الحديث المرفوع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، جواب عن ذلك، حيث قال: ( كان رسول الله ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه، فقال: ما منكم من نفس إلا وقد علم منـزلها من الجنة والنار.. قالوا: يا رسول الله، فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا، فكل [ ص: 52 ] ميسر لما خلق له ثم قرأ:

          ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) إلى قوله: ( فسنيسره للعسرى ) (الليل:5-10 )
          [6] . وبيان هـذا الحديث هـو أن إرادة الله المطلقة لا يجب أن تعني أن فكرة الحرية كان مصدرا دينيا بحتا، بل شارك الفكر الإنساني في حل مشكلة الحرية باعتبار أن هـذه المشكلة تتعلق فيها الإرادة الإلهية بالوجود وحياة الإنسان، بل أصبحت الفلسفات الحرة ترتكز على الإنسان منطلقا وهدفا [7] .

          ولئن ظهرت الحرية كأنها كينونة الله وحده إلا أنها تظل أيضا كصيرورة الإنسان وحده. فمن هـذه الكينونة العلوية التي هـي بالحقيقة المثال الإنساني، استلهم الإنسان مشروع وجود دائم وصيرورة مستمرة تعطيه الصيغة المحورية في هـذا الوجود التي ترتكز على التفكير المبدع، الذي يبتكر ما ينفع المجتمع وما فيه خير للإنسانية [8] .

          أشار إلى ذلك ( حديث جرير بن عبد الله، رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسـلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء ) [9] . [ ص: 53 ] نفهم من هـذا، أن العلاقة بين إرادة الله وحرية الإنسان هـي علاقة متلازمة متماشـية غير منفصمة.. إذا كان الأمر كذلك فإن الإيمان بالقدر لا يعني إجبار الإنسان وإكراهه على أن يسلك طريقا محددا دون أن يكون له اختيار وإرادة حرة، وبالتالي فإن الإيمان بأحكام القضاء والقدر لا بد أن ينتهي العقل إليه ليبحث عن المسببات من أسبابها التي وضعها الله تعالى في الوجود، حيث إنه دبر هـذا الوجود وجعله نظاما محكما وقوانين عامة وسننا، ربط الله بها الأسباب بمسبباتها.

          فعلاقة الإنسان بالله وعلاقته مع نفسه وغير نفسه من المخلوقات هـي علاقة تكليف، وسـيسأل يوم القيامة عما قدمت يداه، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ... وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ... ) [10] .

          هكذا نفهم معنى الحرية في الإسلام.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية