الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الأول: الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

          جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشرع لحراسة الدين من الضياع ومنع تفشي الظلم والفساد، فهو بذلك ليس لحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم فقط، بل هـو وسيلة أيضا للتأكد من إقامة أحكام الإسلام.

          إن الأصل في نظام الإسلام الطاعة، وهو يرفض فكرة المعارضة الدائمة للنظام السياسي.. والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها:

          ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني ) [1] ؛ ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) [2] ؛ ( من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية ) [3] ؛ ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) [4] . [ ص: 179 ] تدل هـذه الأحاديث، وغيرها، على أن طاعة الحاكم في الإسلام أداء لفرض من فروض الدين، وهي بالتالي ليست نابعة من خوف من سطوة حاكم أو رغبة في دفع شر وفساد، بل هـي نابعة من إيمان بمبدأ واعتناق لعقيدة. هـذا وقد قيد الشرع الطاعة بالمعروف، أي بما وافق الشرع، ونهى الإسلام عن الطاعة في المعصية. فإذا ما أمر بالمعصية فالمعارضة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة يتحتم القيام بها تصديا للانحرافات.

          والأدلة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة في الحديث النبوي، منها: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [5] .

          وجعل النبي صلى الله عليه وسلم القيام بهذه المهمة من أسباب النجاة والفوز: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [6] .

          وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تـرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أول ما أصاب بني إسرائيل من النقص: ( إن أول ما دخل النـقص على [ ص: 180 ] بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هـذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض.. ثم قال: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قولـه: ( فاسقون ) (المائدة:78-81) .. ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا ) [7] . وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه زاد: ( أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ) [8] .

          وفي هـذا أعظم تهديد على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث رتب عليه الشرع اللعن والإبعاد عن رحمة الله. وإضافة إلى هـذا جعله الرسول صلى الله عليه وسلم سببا من أسباب عدم إجابة الدعاء: ( والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) [9] .

          وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقصورا على بيئة معينة، أو في حال دون حال، بل هـو في كل الأوقات والأحوال وعلى كافة المستويات. فعن [ ص: 181 ] أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والجلوس على الطرقات.. فقالوا: ما لنا بد، إنما هـي مجالسنا نتحدث فيها.. قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها.. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ) [10] .

          ( وعن أسامة بن زيد ، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلـقى في النار فتنـدلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) [11] .

          في هـذه الأحاديث تشديد على ضرورة القيام بهذا الواجب بأية صورة ممكنة. وهناك أحاديث أخرى لها صلة بهذا الواجب وإن لم يذكر فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صراحة، ولكن فيها حث للمسلمين على الجرأة على قول كلمة الحق للظالم، وبذل الجهد في تغيير المنكر، وإنكار المعاصي، والنهي عن السكوت عن ذلك، وإنذار للمقصرين في ذلك... من ذلك مثلا: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) [12] . [ ص: 182 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية