الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 200 - 202 ] ( وقدر الدرهم وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول الحمار جازت الصلاة معه وإن زاد لم تجز ) وقال زفر والشافعي : قليل النجاسة وكثيرها سواء لأن النص الموجب للتطهير لم يفصل .

ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا ، وقدرناه بقدر الدرهم [ ص: 203 ] أخذا عن موضع الاستنجاء .

ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة وهو قدر عرض الكف في الصحيح ، ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال وهو ما يبلغ وزنه مثقالا .

وقيل في التوفيق بينهما إن الأولى في الرقيق والثانية في الكثيف ، وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت بدليل مقطوع به [ ص: 204 ] ( وإن كانت مخففة كبول ما يؤكل لحمه جازت الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب ) يروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش ، والربع ملحق بالكل في حق بعض الأحكام ، وعنه ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر ، وقيل ربع الموضع الذي أصابه كالذيل والدخريص ، وعن أبي يوسف رحمه الله شبر في شبر ، [ ص: 205 ] وإنما كانت مخففة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لمكان الاختلاف في نجاسته أو لتعارض النصين على اختلاف الأصلين ( وإذا أصاب الثوب من الروث أو أخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله ) لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام رمى بالروثة وقال : هذا رجس أو ركس } لم يعارضه غيره ، وبهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض ( وقالا يجزئه حتى يفحش ) لأن للاجتهاد فيه مساغا ، ولهذا يثبت التخفيف عندهما ، ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها وهي مؤثرة [ ص: 206 ] في التخفيف ، بخلاف بول الحمار لأن الأرض تنشفه .

قلنا : الضرورة في النعال قد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فتكفي مؤنتها ، ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم ، وزفر رحمه الله فرق بينهما فوافق أبا حنيفة رحمه الله في غير مأكول اللحم ووافقهما في المأكول .

وعن محمد رحمه الله أنه لما دخل الري ورأى البلوى أفتى بأن الكثير الفاحش لا يمنع أيضا وقاسوا عليه طين بخارى ، وعند ذلك رجوعه في الخف يروى .

التالي السابق


( قوله و ) لو أصاب الثوب ( قدر الدرهم إلخ ) حاصل المذكور في هذا البحث إفادة كون قدر الدرهم لا يمنع في الغليظة وما لم يفحش في الخفيفة وتقدير الدرهم والفاحش وإعطاء ضابط الغليظة والخفيفة ، أما الأول ففيه الخلاف المنقول .

ووجه قولنا أن ما لا يأخذه الطرف كوقع الذباب مخصص من نص التطهير اتفاقا فيخص أيضا قدر الدرهم بنص الاستنجاء بالحجر لأن محله قدره ولم يدخل حتى لو دخل في قليل ماء نجسه ، أو بدلالة الإجماع عليه ، ثم المعتبر وقت الإصابة فلو كان دهنا نجسا قدر درهم فانفرش فصار أكثر منه لا يمنع في اختيار المرغيناني وجماعة ، ومختار غيرهم المنع ، فلو صلى قبل اتساعه جازت وبعده لا ، ولا يعتبر نفوذ المقدار إلى الوجه الآخر إذا كان الثوب واحدا لأن النجاسة حينئذ واحد في الجانبين فلا يعتبر متعددا ، بخلاف ما إذا كان ذا طاقين لتعددها فيمنع ، وعن هذا فرع المنع لو صلى مع درهم متنجس الوجهين لوجود الفاصل بين وجهيه وهو جوهر سمكه ، ولأنه مما لا ينفذ نفس ما في أحد الوجهين فيه فلم تكن النجاسة فيهما متحدة ، ثم إنما يعتبر المانع مضافا إليه ، فلو جلس الصبي المتنجس الثوب والبدن في حجر المصلي وهو يستمسك أو الحمام المتنجس على رأسه جازت صلاته لأنه الذي يستعمله فلم يكن حامل النجاسة ، بخلاف ما لو حمل من لا يستمسك حيث يصير مضافا إليه فلا يجوز ، هذا والصلاة مكروهة مع ما لا يمنع حتى قيل لو علم قليل النجاسة عليه في الصلاة يرفضها ما لم يخف فوات الوقت أو الجماعة وأما الثاني فظاهر من الكتاب .

وقوله في الصحيح اختيار للتقدير بعرض الكف على الإطلاق ، واختار شارح الكنز تبعا لكثير من المشايخ ما قيل من التوفيق بين الروايتين ، وقاله أبو جعفر لأن إعمال الروايتين إذا أمكن أولى خصوصا مع مناسبة هذا التوزيع . وقوله لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش يفيد أن أصل المروي عن أبي حنيفة ذلك على ما هو دأبه في مثله من عدم التقدير ، فما عد فاحشا منع وما لا فلا حتى روي عنه أنه كره تقديره ، وقال : الفاحش يختلف باختلاف طباع الناس ، فوقفه على عد طباع المبتلى إياه فاحشا ، [ ص: 203 ] وقد روي عنه تقديره بربع الثوب وربع أدنى ثوب يجوز فيه الصلاة ، وعن أبي يوسف شبر في شبر .

وعنه ذراع في ذراع ومثله عن محمد ، وعن محمد أن يستوعب القدمين ويظهر أن الأول أحسن لاعتبار الربع كثيرا كالكل في مسألة الثوب ينجس الأربعة وانكشاف ربع العضو من العورة بخلاف ما دونه فيهما .

غير أن ذلك الثوب الذي هو عليه إن كان شاملا اعتبر ربعه ، وإن كان أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه لأنه الكثير بالنسبة إلى الثوب المصاب ، وأما الثالث فعندهما اختلاف العلماء في ذلك لأنه يورث شبهة ، وعنده تعارض النصين في الطهارة والنجاسة ، وإذا فالدم والخمر وخرء الدجاج والبط والإوز والغائط وبول الآدمي وما لا يؤكل لحمه إلا الفرس والقيء : غليظ اتفاقا ; لعدم التعارض والخلاف ، والمراد بالدم غير الباقي في العروق وفي حكمه اللحم المهزول إذا قطع ، فالدم الذي فيه ليس نجسا وكذا الدم الذي في الكبد لا من غيره كذا قيل .

قال المصنف في التجنيس : وفيه نظر لأنه إن لم يكن دما فقد جاور الدم ، والشيء ينجس بمجاورة النجس .

وعن أبي يوسف في الباقي أنه معفو في الأكل لا الثوب ، وغير دم الشهيد ما دام عليه حتى لو حمله ملطخا به في الصلاة صحت .

بخلاف قتيل غير شهيد لم يغسل أو غسل وكان كافرا لأنه لا يحكم بطهارته بالغسل بخلاف المسلم .

وعين المسك قالوا يجوز أكله والانتفاع به مع ما اشتهر من كونه دما ولم أر له تعليلا ، وذاكرت بعض الإخوان من المغاربة في الزباد فقلت يقال إنه عرق حيوان محرم الأكل ، فقال ما يحيله الطبع إلى صلاح كالطيبية يخرج عن النجاسة كالمسك ، وليس دم البق والبراغيث والسمك بشيء ، وأما القيء فإذا كان ملء الفم فنجس فأما ما دونه فظاهر على ما هو المختار من [ ص: 204 ] قول أبي يوسف ، وفي فتاوى نجم الدين النسفي : صبي ارتضع ثم قاء فأصاب ثياب الأم ، إن كان ملء الفم فنجس ، فإذا زاد على قدر الدرهم منع .

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمنع ما لم يفحش لأنه لم يتغير من كل وجه ، كذا في غريب الرواية لأبي جعفر عن أبي حنيفة وهو الصحيح ، وما قدمناه في النواقض عن المجتبي وغيره يقتضي طهارة هذا القيء فارجع إليه . وقوله لأنها ثبتت بدليل مقطوع به معناه مقطوع بوجوب العمل به ، فالعمل بالظني واجب قطعا في الفروع وإن كان نفس وجوب مقتضاه ظنيا ، والأولى أنه يريد دليل الإجماع ، وثمرة الخلاف تظهر في الروث وهو للحمار والفرس ، والخثى وهو للبقر ، والبعر وهو للإبل والغنم ، فعنده غليظة لقوله عليه الصلاة والسلام في الروثة { إنها ركس } ولم يعارض وعندهما خفيفة فإن مالكا يرى طهارتها ، ولعموم البلوى لامتلاء الطرق بخلاف بول الحمار وغيره مما لا يؤكل لأن الأرض تنشفه حتى رجع محمد آخرا إلى أنه لا يمنع الروث وإن فحش لما دخل الري مع الخليفة ورأى بلوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها ، وقاس المشايخ على قوله هذا طين بخارى لأن مشي الناس والدواب فيها وعند ذلك يروى رجوعه في الخف حتى إذا أصابته عذرة يطهر بالدلك .

وفي الروث لا يحتاج إلى الدلك عنده ، وله أن الموجب للعمل النص لا الخلاف ، والبلوى في النعال وقد ظهر أثرها حتى طهرت بالدلك فإثبات أمر زائد على ذلك يكون بغير موجب ، وما قيل إن البلوى لا تعتبر في موضع للنص عنده كبول الإنسان ممنوع ، بل تعتبر إذا تحققت بالنص النافي للحرج وهو ليس معارضة للنص بالرأي والبلوى في بول الإنسان في الانتضاح كرءوس الإبر لا فيما سواه لأنها إنما تتحقق بأغلبية عسر الانفكاك وذلك إن تحقق في بول الإنسان فكما قلنا ، وقد رتبنا مقتضاه إذ قد أسقطنا اعتباره ، ثم حديث رمي الروثة هو ما في البخاري من حديث ابن مسعود { أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد ، فأخذت روثة فأتيته ، بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس } وأما المراد بالنصين في قوله أو لتعارض النصين فحديث { استنزهوا البول } وحديث [ ص: 205 ] العرنيين وقد تقدما ، وفرق زفر إلحاق الروث كل شيء ببوله ، وفي مختصر الكرخي قال زفر : روث ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك .

[ فرع ] مرارة كل شيء كبوله واجتراره كسرقينه قال في التنجيس لأنه واراه جوفه ، ألا ترى أن ما يوارى جوف الإنسان بأن كان ماء ثم قاءه فحكمه حكم بوله ا هـ .

وهو يقتضي أنه كذلك وإن قاء من ساعته ، وقدمنا في النواقض عن الحسن ما هو الأحسن فارجع إليه ، وقد صححه بعد قريب ورقة فقال في الصبي ارتضع ثم قاء فأصاب ثياب الأم إن زاد على الدرهم منع .

قال : وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يمنع ما لم يفحش لأنه [ ص: 206 ] لم يتغير من كل وجه فكان نجاسته دون نجاسة البول ، بخلاف المرارة لأنها متغيرة من كل وجه ، كذا في غريب الرواية عن أبي حنيفة وهو الصحيح وفيه ما ذكرنا .




الخدمات العلمية