الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وصفة القران أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول عقيب الصلاة : اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني ) لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما ، وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم ، ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم العمرة على الحج فيه ولذلك يقول : لبيك بعمرة وحجة معا لأنه يبدأ بأفعال العمرة فكذلك يبدأ بذكرها ، وإن أخر ذلك في الدعاء والتلبية لا بأس به لأن الواو للجمع ، ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة ( فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها ، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة ، وهذه أفعال العمرة ، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد ) ويقدم أفعال العمرة لقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } والقران في معنى المتعة . ولا [ ص: 526 ] يحلق بين العمرة والحج لأن ذلك جناية على إحرام الحج ، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد ، ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد ثم هذا مذهبنا .

وقال الشافعي رحمه الله : يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا لقوله عليه الصلاة والسلام { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفى فيه بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك في الأركان [ ص: 527 ] ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال له رضي الله تعالى عنه : هديت لسنة نبيك ، ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال ، ولأنه لا تداخل في العبادات .

[ ص: 528 ] والسفر للتوسل ، والتلبية للتحريم ، والحلق للتحلل ، فليست هذه الأشياء بمقاصد ، بخلاف الأركان ، ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان وبتحريمة واحدة يؤديان ومعنى ما رواه دخل وقت العمرة في وقت الحج

التالي السابق


( قوله عقيب الصلاة ) أي سنة الإحرام على ما قدمناه ( قوله والقران في معنى التمتع ) وعلى ما قلناه في قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } [ ص: 526 ] يفيد تقديم العمرة في القران بنظم الآية لا بالإلحاق ( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } ) تقدم غير مرة ، وتقدم من حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين { أنه قرن فطاف طوافا واحدا لهما ثم قال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

أجاب المصنف بقوله : ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال له عمر رضي الله عنه : هديت لسنة نبيك . ثم حمل الدخول على الدخول في الوقت ، وذلك أن ظاهره غير مراد اتفاقا ، وإلا كان دخولها في الحج غير متوقف على نية القران بل كل من حج يكون قد حكم بأن حجه تضمن عمرة وليس كذلك اتفاقا . بقي أن يراد الدخول وقتا أو تداخل الأفعال بشرط نية القران والدخول وقتا ثابت اتفاقا وهو محتمله وهو متروك الظاهر فوجب الحمل عليه ، بخلاف المحتمل الآخر لأنه مختلف فيه ومخالف للمعهود المستقر شرعا في الجمع بين عبادتين وهو كونه بفعل أفعال كل منهما ، ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان إذا أحرم لهما بتحريمة واحدة ؟ وأنت خبير بأن هذا الجواب متوقف على صحة حديث صبي بن معبد على النص الذي ذكره المصنف ، والذي قدمناه من تصحيحه في أدلة القران إنما نصه عن الصبي قال : أهللت بهما معا ، فقال عمر رضي الله عنه : هديت لسنة نبيك ، وفي رواية أبي داود والنسائي عن الصبي بن معبد قال : كنت رجلا أعرابيا نصرانيا فأسلمت ، فأتيت رجلا من عشيرتي يقال له هذيم بن ثرملة فقلت : يا هناه إني حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي فكيف لي بأن أجمع بينهما ؟ فقال لي : اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي ، فأهللت فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل [ ص: 527 ] بهما معا ، فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيره ، قال : فكأنما ألقي علي جبل حتى أتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين إني كنت رجلا أعرابيا نصرانيا وإني أسلمت وإني حريص على الجهاد ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي ، فأتيت رجلا من قومي فقال لي اجمعها واذبح ما استيسر من الهدي ، وإني أهللت بهما جميعا ، فقال عمر رضي الله عنه : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ا هـ .

وليس فيه أنه قال له ذلك عقيب طوافه وسعيه مرتين .

لا جرم أن صاحب المذهب رواه على النص الذي هو حجة ، وإنما قصره المصنف . وذلك أن أبا حنيفة رضي الله عنه روى عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الصبي بن معبد قال : أقبلت من الجزيرة حاجا قارنا فمررت بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وهما منيخان بالعذيب ، فسمعاني أقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فقال أحدهما : هذا أضل من بعيره ، وقال الآخر : هذا أضل من كذا وكذا ، فمضيت حتى إذا قضيت نسكي مررت بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فساقه إلى أن قال فيه : قال يعني عمر له : فصنعت ماذا ؟ قال : مضيت فطفت طوافا لعمرتي وسعيت سعيا لعمرتي ثم عدت ففعلت مثل ذلك لحجي ، ثم بقيت حراما ما أقمنا أصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت آخر نسكي ، قال : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم . وأعاده ، وفيه : كنت حديث عهد بنصرانية فأسلمت فقدمت الكوفة أريد الحج ، فوجدت سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان يريدان الحج ، وذلك في زمان عمر بن الخطاب ، فأهل سلمان وزيد بالحج وحده وأهل الصبي بالحج والعمرة فقالا : ويحك تمتع وقد نهى عمر عن المتعة ، والله لأنت أضل من بعيرك فساقه

، وفيه ما قدمنا من أن التمتع في عرف الصدر الأول وتابعيهم يعم القران والتمتع بالعرف الواقع الآن . وأيضا المعارضة بين أقوال الصحابة ورواياتهم عنه عليه الصلاة والسلام الاكتفاء بطواف واحد وسعي واحد ثابتة ، فتقدم عن ابن عمر رضي الله عنه فعلا ورواية الاكتفاء بواحد وكذا من غيره .

وصح عن غير واحد عدمه ، فمن ذلك عن علي رضي الله عنه : أخرج النسائي في سننه الكبرى عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال : { طفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، وحدثني أن عليا رضي الله عنه فعل ذلك ، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك } .

وحماد هذا إن ضعفه الأزدي فقد ذكره ابن حبان في الثقات فلا ينزل حديثه عن الحسن . وقال محمد بن الحسن في كتاب الآثار : أخبرنا أبو حنيفة رضي الله عنه ، حدثنا منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن أبي نصر السلمي عن علي رضي الله عنه قال : إذا أهللت بالحج والعمرة فطف لهما طوافين واسع لهما سعيين بالصفا والمروة ، قال منصور . فلقيت مجاهدا وهو يفتي بطواف واحد لمن قرن ، فحدثته بهذا الحديث فقال : لو كنت سمعته لم أفت إلا بطوافين ، وأما بعده فلا أفتي [ ص: 528 ] إلا بهما . ولا شبهة في هذا السند مع أنه روي عن علي رضي الله عنه بطرق كثيرة مضعفة ترتقي إلى الحسن ، غير أنا تركناها واقتصرنا على ما هو الحجة بنفسه بلا ضم .

ورواه الشافعي رحمه الله بسند فيه مجهول وقال وقال : معناه أنه يطوف بالبيت حين يقدم وبالصفا وبالمروة ثم يطوف بالبيت للزيارة ا هـ . وهو صريح في مخالفة النص عن علي رضي الله عنه . وقول ابن المنذر : لو كان ثابتا عن علي رضي الله عنه كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى { من أحرم بالحج والعمرة أجزأه عنهما طواف واحد وسعي واحد } مدفوع بأن عليا رضي الله عنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمعناك فوقعت المعارضة ، فكانت هذه الرواية أقيس بأصول الشرع فرجحت وثبت عن عمران بن الحصين أيضا رفعه .

وهو ما أخرج الدارقطني عن محمد بن يحيى الأزدي : حدثنا عبد الله بن داود عن شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن حصين { أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين } ، ومحمد بن يحيى هذا قال الدارقطني ثقة ، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ، غير أن الدارقطني نسب إليه في خصوص هذا الحديث الوهم فقال : يقال إن يحيى حدث به من حفظه فوهم ، والصواب بهذا الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة ، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي .

ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي وحدث به على الصواب ، ثم أسند عنه به أنه عليه الصلاة والسلام قرن ، قال : وقد خالفه غيره فلم يذكروا فيه الطواف . ثم أسند إلى عبد الله بن داود وبذلك الإسناد أيضا أنه قرن ا هـ . وحاصل ما ذكر أنه ثقة ثبت عنه أنه ذكر زيادة على غيره . والزيادة من الثقة مقبولة . وما أسند إليه غاية ما فيه أنه اقتصر مرة على بعض الحديث وهذا لا يستلزم رجوعه واعترافه بالخطإ . فكثيرا يقع مثل هذا . وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه مثل ذلك أيضا .

قال ابن أبي شيبة : حدثنا هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن زياد بن مالك أن عليا وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في القران : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، فهؤلاء أكابر الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم . فإن عارض ما ذهبوا إليه رواية ومذهبا رواية غيرهم ومذهبه كان قولهم وروايتهم مقدمة مع ما يساعد قولهم وروايتهم مما استقر في الشرع من ضم عبادة إلى أخرى أنه بفعل أركان كل منهما ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال




الخدمات العلمية