الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور، لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا به في جواب «ما هو» ؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه، ولذلك ليس يقنع الجمهور، أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به أنه لا ماهية له، لأنه ما لا ماهية له لا ذات له؟

قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه [ ص: 244 ] العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال: الله نور السماوات والأرض [النور: 35] وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت فإنه جاء أنه قيل له عليه السلام: «هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه» وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى، غشى السدرة من النور، ما حجب بصره عن النظر إليها، أو إليه سبحانه، ففي مسلم «إن لله حجابا من نور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه [ ص: 245 ] ما انتهى إليه بصره» وفي بعض روايات هذا الحديث «سبعين حجابا من نور».

وينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه، لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الأوهام، مع أنه ليس بجسم، والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير [ ص: 246 ] المحسوس. والنور لما كان أشرف المحسوسات وجب أن يمثل به أشرف الموجودات. وهنا أيضا سبب آخر موجب أن يسمى به نورا. وذلك أن حال وجوده في عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل، هي حال الأبصار عند النظر إلى الشمس، بل حال عيون الخفافيش، وكان هذا الوصف لائقا عند الصنفين من الناس.

وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما كان سبب الموجودات، وسبب إدراكنا لها، وكان النور مع الألوان هذه صفته -أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل، وسبب رؤيتنا له- فالحق ما سمى الله تبارك وتعالى نفسه نورا. وإذا قيل: إنه نور لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد. فقد تبين لك في هذا القول الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة في هذه الصفة، وما حدث في ذلك من البدعة، وإنما سكت الشرع عن هذه [ ص: 247 ] الصفة، لأنه لا يعترف بموجود في الغائب ليس بجسم، إلا من أدرك ببرهان أن في المشاهد بهذه الصفة -وهي النفس- ولما كان الوقوف على معرفة هذا المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم، فلما حجبوا عن معرفة النفس، علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه وتعالى».

التالي السابق


الخدمات العلمية