الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس: أن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة: فيقول المثبت للعلو، من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم: أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون [ ص: 396 ] محايثا لغيره أو مباينا له. وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري: الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، هو أيضا معلوم لي، وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم. أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيا ولا إثباتا.

وقد يقول أيضا: أنا لا أنظر في هذه المعارضة، وسواء جزمت بثبوت الملازمة، أو انتفائها أو لم أجزم بشيء، فأقول: لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزما للقول، بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون، فإن لم يكن مستلزما بطلت المعارضة، وإن كان مستلزما لقدم جسم من الأجسام، فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم، أبين عندي من العلم بهذه القضية; إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية، وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية، وفيها نزاع كثير.

ولا أيضا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام، بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم; بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم، وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش، والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة، إلا بتوسط مقدمات مستنبطة: بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام، وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه. وأما دلالة القرآن على العلو، فلا تحتاج إلى مقدمات [ ص: 397 ] مستنبطة. فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم، أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة، لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة، خوفا أن يلزمني إنكار هذا الذي ليس هو مثله في ذلك. وهذا الجواب بين ظاهر.

وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها -وهو أن هذا يستلزم أن يقال: مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان- إما أن تكون هذه الملازمة حقا في نفس الأمر أو باطلا، فإن كانت باطلا بطلت المعارضة، وإن كانت حقا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم، لا يلزم انتفاء الملزوم عينا، وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم، بأظهر من العلم بثبوت الملزوم، بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل، فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم، فلا تصح المعارضة، وهكذا يقول الفيلسوف، وذلك يظهر:

التالي السابق


الخدمات العلمية