الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع ، وذلك لأن قوله : ( الذين يستنبطونه منهم ) صفة لأولي الأمر ، وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ، ولا يخلوا إما أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها ، أو لا مع حصول النص فيها ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال : أنه استنبط الحكم ، فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ، ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك ، فثبت أن الاستنباط حجة ، والقياس إما استنباط أو داخل فيه ، فوجب أن يكون حجة . إذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الاستنباط حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 160 ] ثم قال تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لا نسلم أن المراد بقوله : ( الذين يستنبطونه منهم ) أولو الأمر ، بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية ، سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد ، فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها ، فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية ؟ فإن قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز ، سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية . فلم قلتم : إنه يلزم أن يكون القياس حجة ؟ بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص ، أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الأصلية ، أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الأكثرون : إن الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار الحرمة ، سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية ، لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيدا للعلم بدليل قوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فأخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط ، ولا نزاع في مثل هذا القياس ، إنما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا ؟ والجواب :

                                                                                                                                                                                                                                            أما السؤال الأول : فمدفوع لأنه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان أولى أن يقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه ، لأن عطف المظهر على المضمر ، وهو قوله : ( ولو ردوه ) قبيح مستكره .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثاني : فمدفوع لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية ، لأن الأمن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف ، فثبت أنه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هب أن الأمر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي ، ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق ، ألا ترى أن من قال : القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثالث : وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه : أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا ، والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا . قوله : لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الأصلية ؟ قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يسمى استنباطا البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الرابع : وهو قوله إن هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم ، والقياس الشرعي لا يفيد العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم ، وذلك لأن بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ، ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع ، فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل ، وعند هذا [ ص: 161 ] الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن ، فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم ، وأما الحكم فمقطوع به ، وهو يجري مجرى ما إذا قال الله : مهما غلب على ظنك كذا فاعلم أن في الواقعة الفلانية حكمي كذا ، فإذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو أن العلم قد يطلق ويراد به الظن ، قال عليه الصلاة والسلام : " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " شرط العلم في جواز الشهادة ، وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة ، فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية