الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : ( تجارة ) بالنصب ، والباقون بالرفع . أما من نصب فعلى " كان " الناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، وأما من رفع فعلى " كان " التامة ، والتقدير : إلا أن توجد وتحصل تجارة . وقال الواحدي : والاختيار الرفع ؛ لأن من نصب أضمر التجارة فقال : تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة ، والإضمار قبل الذكر ليس بقوي وإن كان جائزا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( إلا ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه استثناء منقطع ؛ لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل ، فكان " إلا " ههنا بمعنى " بل " ، والمعنى : لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن من الناس من قال : الاستثناء متصل ، وأضمر شيئا فقال : التقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وإن تراضيتم كالربا وغيره إلا أن تكون تجارة عن تراض .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة ، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة ، والوصية ، والإرث ، وأخذ الصدقات ، والمهر ، وأروش الجنايات ، فإن أسباب الملك كثيرة سوى التجارة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 58 ] فإن قلنا : إن الاستثناء منقطع فلا إشكال ، فإنه تعالى ذكر ههنا سببا واحدا من أسباب الملك ولم يذكر سائرها ، لا بالنفي ولا بإثبات .

                                                                                                                                                                                                                                            وإن قلنا : الاستثناء متصل . كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل ، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الشافعي - رحمة الله عليه - : النهي في المعاملات يدل على البطلان ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يدل عليه . واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الإنسان وكيلا في بعض التصرفات ، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالإجماع ، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود ، وإما أن لا تكون ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود ، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها ، قياسا على التصرفات الصحيحة ، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد ، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين . فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال . وثالثها : أن قوله : لا تبيعوا الدرهم بدرهمين ، كقوله : لا تبيعوا الحر بالعبد ، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة ، فكذا الأول ، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيدا للحكم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية