الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : مذهب الشافعي - رضي الله عنه - : أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة ، اثنان منها في الناكح ، والثالث في المنكوحة ، أما اللذان في الناكح ، فأحدهما : أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق ، وهو معنى قوله : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة ، فمن أين هذا التفاوت ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات ، وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الشرط الثاني : فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) أي بلغ الشدة في العزوبة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة : فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة ، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين : الرق والكفر ، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر ، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر ، فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فيقول : إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ، أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك ، سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر ، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية ، وتقريره من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة ، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة ، وذلك الوصف يناسب هذا الحكم ؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى الجماع ، فإذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها ، وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة ، إذا ثبت هذا فنقول : الحكم إذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه ، فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، إذا ثبت هذا فنقول : لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم البتة ، لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم ، فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة [ ص: 48 ] على طول الحرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم ، وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، والدليل عليه أن القائل إذا قال : الميت اليهودي لا يبصر شيئا ، فإن كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول : إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا ؟ فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة ، علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد ، قال أبو بكر الرازي : تخصيص هذه الحالة بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه ، كقوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) [ الإسراء : 31 ] ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة ، وقوله : ( لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) [ آل عمران : 130 ] لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة ، فيقال له : ظاهر اللفظ يقتضي ذلك ، إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل ، كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب ، وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل ، والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه ، حيث قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء ؟ والتقدير : ومن لم يستطع منكم وطء الحرة ، وذلك عند من لا يكون تحته حرة ، فإنه يجوز له نكاح الأمة ، وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى ، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد لا في عدم القدرة على الوطء ، واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات كقوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] ، وقوله : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) ، وقوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، وقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) وهو متناول للإماء الكتابيات . والمراد من هذا الإحصان العفة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن آيتنا خاصة ، والخاص مقدم على العام ، ولأنه دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرة ، وإنما خصت صونا للولد ، عن الإرقاق ، وهو قائم في محل النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية