الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 185 ] فصل

                                                                                                                                                                        ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة قد يحكم ، وينهيه إلى حاكم آخر ، وقد يقتصر على السماع وينهيه ، وفرغنا من القسم الأول ، وأما الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق بالحكم .

                                                                                                                                                                        اعلم أن صيغ الحكم في قوله : حكمت على فلان لفلان بكذا وألزمته ، لما سبق في الأدب الخامس من الباب الثاني ، فلو قال : ثبت عندي كذا بالبينة العادلة ، أو صح ، فهل هو حكم ؟ فيه وجهان أحدهما : نعم ؛ لأنه إخبار عن تحقيق الشيء جزما وأصحهما لا ؛ لأنه قد يراد به قبول الشهادة ، واقتضاء البينة صحة الدعوى ، فصار كقوله : سمعت البينة وقبلتها ولأن الحكم هو الإلزام ، والثبوت ليس بإلزام .

                                                                                                                                                                        وأما ما يكتب [ على ] ظهور الكتب الحكمية وهو : صح ورود هذا الكتاب علي ، فقبلته قبول مثله ، وألزمت العمل بموجبه ، فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب ، وإثبات الحجة ، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الأصح ، وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته ؟ وجهان . ويشترط تعيين ما يحكم به ، ومن يحكم له ، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز ، ويحتاج إلى ملاينته ، فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده .

                                                                                                                                                                        مثاله : أقام خارج بينة وداخل بينة ، والقاضي يعلم فسق بينة الداخل ، ولكنه يحتاج إلى ملاينته ، وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل ، فيكتب : حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل ، وفلان الخارج ، وقررت المحكوم به في يد المحكوم له ، وسلطته عليه ، ومكنته من التصرف فيه إذا ثبتت هذه [ ص: 186 ] المقدمة ، فإذا لم يحكم القاضي ، وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب ، سمي بذلك كتاب نقل الشهادة ، وكتاب التثبيت ، أي : تثبيت الحجة .

                                                                                                                                                                        وينص على الحجة ، فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين ، أو نكل المدعى عليه ، وحلف المدعي ، وإنما ينص على الحجة ، ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة ، فقد لا يرى بعض تلك الحجة ، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه ؟ قال في العدة : لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم ؛ لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة .

                                                                                                                                                                        وفي أمالي السرخسي جوازه ، ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم . وإذا كتب بسماع البينة ، فليسم الشاهدين ، والأولى أن يبحث عن حالهما ويعدلهما ؛ لأن أهل بلدهما أعرف بهما ، فإن لم يفعل ، فعلى المكتوب إليه البحث والتعديل . إذا عدل ، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين ؟ قال الإمام والغزالي : لا ، والقياس الجواز ، كما أنه إذا حكم ، استغنى عن تسمية الشهود ، وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره ، وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم له البحث وإعادة التعديل ؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني ، والقياس الأول .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي جعله القياس هو الصواب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي ، والقول في إشهاد القاضي ، وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه في الاسم على ما سبق في القسم الأول ، وإذا عدل الكاتب شهود الحق ، فجاء الخصم ببينته على جرحهم [ ص: 187 ] سمعت ، ويقدم على التعديل ، وإن استمهل البينة الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم ، وكذا لو قال : أبرأتني ، أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم ، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك ، أو قال : لي بينة أخرى هناك دافعة ، لم يمهل ، بل يؤخذ الحق منه ، فإذا أثبت جرحا أو دفعا ، استرد ، وسواء في ذلك كتاب الحكم وكتاب نقل الشهادة . وفي العدة أنه لو سأله المحكوم عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه أجابه إليه ، ولو سأل إحلافه على عدالتهم لم يجبه ، وكفى تعديل الحاكم إياهم ، وأنه لو ادعى قضاء الدين ، وسأل إحلافه : أنه لم يستوفه ، لم يحلف ؛ لأن الكاتب أحلفه .

                                                                                                                                                                        وذكر البغوي في مثله في دعوى الإبراء أنه يحلفه : أنه لم يبرئه فحصل وجهان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيا من طرف ولايته : إني سمعت البينة بكذا ، أو جوزنا قاضيين في بلد ، فقال ذلك قاض لقاض ، هل للمقول له الحكم بذلك ؟ قال الإمام والغزالي : يبنى ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الأصول ، أم حكم بقيام البينة ؟ وفيه وجهان فعلى الأول لا يجوز ، كما لا يحكم بالفرع مع حضور الأصل .

                                                                                                                                                                        وعلى الثاني يجوز كما في الحكم المبرم ، وهذا أرجح عند الإمام والغزالي ، والصحيح الأول ، وبه قال عامة الأصحاب ، وقالوا أيضا : كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على [ ص: 188 ] الشهادة ، وهذا نصه في " عيون المسائل " ولو قال الحاكم لخليفته : اسمع دعوى فلان وبينته ، ولا تحكم به حتى تعرفني ، ففعل هل للحاكم أن يحكم به ؟ القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر ، لإمكان حضور الشهود عنده ، لكن الأشبه هنا الجواز ، وبه أجاب أبو العباس الروياني مع توقف فيه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية