الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        مراتب ألفاظ الرواية من غير الصحابي

                        وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي فلها مراتب بعضها أقوى من بعض :

                        المرتبة الأولى : أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ ، وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل ; لأنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه ، وهم يسمعون ، وهي أبعد من الخطأ والسهو .

                        وقال أبو حنيفة : إن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ ; لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين ، وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده ، وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين .

                        قال الماوردي والروياني : ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد ، أو اتفاقا ، أو مذاكرة ، ويجوز أن يكون الشيخ أعمى يملي من حفظه ، ويجوز أن يكون أصم ، ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ، ولا يجوز أن يكون أصم ، وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقا به ذاكرا لوقت سماعه له .

                        وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنها لا تجوز الرواية من الكتاب ، ولا وجه [ ص: 205 ] لذلك ، فإنه يستلزم بطلان فائدة الكتاب ، ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ ; لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه .

                        وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول : حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا إذا كان الشيخ قاصدا لإسماعه وحده ، أو مع جماعة ، فإن لم يقصد ذلك ، فيقول سمعته يحدث .

                        المرتبة الثانية : القراءة

                        وهي أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع ، وأكثر المحدثين يسمون هذا عرضا ، وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ ، كأنه يعرض عليه ما يقرؤه ، ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ، ورواية معمول بها ، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه .

                        قال الجويني وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالما بما يقرؤه التلميذ عليه ، ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه ، وإلا لم تصح الرواية عنه . قال : وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا ولا يأمن تدليسا وإلباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه ؟

                        قال أبو نصر القشيري : وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي ، فإن صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل ، وإن لم يعرف معناه .

                        وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه ، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث ، وكيف لا ، وفي الحديث رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

                        ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ، ويسند بذلك باب التحديث .

                        قال : وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها ، وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز ، وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره الكيا الطبري والمازري .

                        ويقول التلميذ في هذه الطريقة قرأت على فلان ، أو أخبرني ، أو حدثني قراءة عليه ، وأما إطلاق أخبرني ، أو حدثني بدون تقييد بقوله قراءة عليه ، فمنع من ذلك جماعة [ ص: 207 ] منهم ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي ; لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه .

                        وقال الزهري ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري : إنه يجوز ; لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ، ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي .

                        وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح : أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ، ولا يجوز أن يقول حدثنا .

                        قال الربيع ، قال الشافعي : إذا قرأت على العالم ، فقل : أخبرنا ، وإذا قرأ عليك ، فقل : حدثنا .

                        قال ابن دقيق العيد : وهو باصطلاح المحدثين في الآخر ، والاحتجاج له ليس بأمر لغوي ، وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين .

                        قال ابن فورك : بين حدثني وأخبرني فرق ; لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه ، وحدثني لا يحتمل غير السماع .

                        المرتبة الثالثة

                        الكتابة المقترنة بالإجازة
                        نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا ، وقد أجزت لك أن ترويه عني ، وكان خط الشيخ معروفا ، فإن تجردت الكتابة عن الإجازة ، فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين ، حتى قال ابن السمعاني إنها أقوى من مجرد الإجازة ، وقال الكيا الطبري إنها بمنزلة السماع ، قال : لأن الكتابة أحد اللسانين ، وقد [ ص: 208 ] كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ بالكتابة للغائبين ، كما يبلغ بالخطاب للحاضرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى .

                        قال البيهقي في المدخل : الآثار في هذا كثير من التابعين فمن بعدهم ، وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم ، وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عماله بالأحكام شاهدة لقوله ، قال : إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه أو قرئ عليه وأقر به أولى بالقبول مما كتب به إليه ; لما يخاف على الكتاب من التغيير .

                        وكيفية الرواية أن يقول كتب إلي أو أخبرني كتابة ، فإن كان الكاتب قد ذكر الأخبار في كتابه ، فلا بأس بقوله أخبرنا ، وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجردا عن قوله كتابة .

                        قال ابن دقيق العيد : وأما تقييده بقوله كتابة ، فينبغي أن يكون هذا أدبا ; لأن القول إذا كان مطابقا جاز إطلاقه ، ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين ، وجوز الليث بن سعد إطلاق حدثنا ، وأخبرنا في الرواية بالكتابة .

                        قال القاضي عياض : إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة ، ووجوب العمل بها ، وإنها داخلة في المسند ، وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها ، ومنع قوم من الرواية بها منهم المازري والروياني ، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني والآمدي .

                        المرتبة الرابعة : المناولة

                        وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة وهي على وجهين :

                        [ ص: 209 ] الوجه الأول : أن تقترن بالإجازة ، وذلك بأن يدفع أصله أو فرعا مقابلا عليه ويقول : هذا سماعي فاروه عني ، أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه ، فيعرضه على الشيخ ، ثم يعيده إليه ، ويقول هو من مروياتي ، فاروه عني .

                        قال القاضي عياض في الإلماع : إنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع .

                        قال المازري : لا شك في وجوب العمل بذلك ، ولا معنى للخلاف فيه .

                        قال الصيرفي : ولا نقول حدثنا ، ولا أخبرنا في كل حديث .

                        وروي عن أحمد وإسحاق ومالك : أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع ، وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة .

                        الوجه الثاني : أن لا تقترن بالإجازة ، بل يناوله الكتاب ، ويقتصر على قوله : هذا سماعي من فلان ، ولا يقول اروه عني ، فقال ابن الصلاح والنووي : لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء ، وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها ، وبه قال ابن الصباغ والرازي .

                        قال البخاري : واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث كتب لأمير السرية كتابا ، وقال لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس ، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك .

                        قال العبدري : لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول : أجزت لك أن تروي عني ، وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة .

                        [ ص: 210 ] المرتبة الخامسة : الإجازة

                        وهو أن يقول : أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه ، أو هذا الكتاب ، أو هذه الكتب ، فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ، ومنع من ذلك جماعة .

                        قال شعبة : لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة .

                        وقال أبو زرعة الرازي : لو صحت الإجازة لذهب العلم . ومن المانعين إبراهيم الحربي وأبو الشيخ الأصفهاني والقاضي حسين والماوردي والروياني من الشافعية وأبو طاهر الدباس من الحنفية .

                        وقال : من قال لغيره : أجزت لك أن تروي عني ، فكأنه قال أجزت لك أن تكذب علي .

                        ويجاب عما قال هؤلاء المانعون : بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة ، وأيضا المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية ، وقد حصلت بالإجازة ، ولا تستلزم ذهاب العلم ، غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية ، وهي طريقة السماع ، والكل طرق للرواية ، والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى .

                        وأما قول الدباس : إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه : أجزت لك أن تكذب علي ، فهذا خلف من القول ، وباطل من الكلام ، فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر ، وهي هنا حاصلة ، وإذا تحقق سماع الشيخ ، وتحقق إذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ، ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية جملة [ ص: 211 ] وبين الطريق المقتضية للرواية تفصيلا في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق ، وإن كان بعضها أقوى من بعض .

                        وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الإحكام : إنه بدعة غير جائزة .

                        واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة : حدثني ، أو أخبرني ، أو حدثنا ، أو أخبرنا ، من غير تقييد ، بكون ذلك إجازة ؟ فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور ، وهو أن يقول : حدثني إجازة ، أو أخبرني إجازة . قال ابن دقيق العيد : وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا . قيل : يجوز أن يقول : أنبأني بالاتفاق ، وهذه الطريقة على أنواع :

                        النوع الأول : أن يجيز في معين لمعين ، نحو أن يقول : أجزت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني عني ، وهذه الطريقة أعلى أنواع الإجازة .

                        النوع الثاني : أن يجيز لمعين في غير معين ، نحو أن يقول : أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي ، فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني .

                        النوع الثالث : أن يجيز غير معين لغير معين ، نحو أن يقول : أجزت للمسلمين ، أو لمن أدرك حياتي جميع مروياتي . وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الخطيب وأبو الطيب الطبري ، ومنعه آخرون .

                        هذا فيما إذا كان المجاز له أهلا للرواية ، وأما إذا لم يكن أهلا لها كالصبي ، فجوز ذلك قوم ، ومنعه آخرون .

                        واحتج الخطيب للجواز بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه ، والإباحة تصح للمكلف وغيره ، ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلا لها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية