الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 386 ] المسألة الثالثة والعشرون : في العام الوارد على سبب خاص

                        ورود العام على سبب خاص ، وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وحكوا ذلك إجماعا ، كما رواه الزركشي في البحر .

                        قال : ولا بد في ذلك من تفصيل ، وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابا لسؤال سائل أو لا ، فإن كان جوابا فإما أن يستقل بنفسه أو لا ، فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه ، حتى كأن السؤال معاد فيه ، فإن كان السؤال عاما فعام ، وإن كان خاصا فخاص .

                        مثال خصوص السؤال قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم ، وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف ، قالوا : نعم ، قال : فلا إذا ، وكقول القائل : وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول : عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ، ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين ، أو في كل من كان بصفته .

                        ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال : يعتق رقبة ، فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان ، وقوله : يعتق ، وإن كان خاصا بالواحد ، لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع ، كان الجواب كذلك ، وصار السؤال معادا في الجواب .

                        قال الغزالي : وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم .

                        [ ص: 387 ] وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه قال : لأن الضمير لا بد له من أن يتعلق بما قبله ، ولا يحسن أن يبتدأ به .

                        قال الزركشي : وفي هذا نظر ; لأن هذا ضمير شأن ، ومن شأنه صدر الكلام ، وإن لم يتعلق بما قبله .

                        قال : وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني ، وهو الصواب ، وبه صرح ابن برهان ، وغيره .

                        وإن استقل الجواب بنفسه ، بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم ، فهو على ثلاثة أقسام ; لأنه إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم .

                        الأول : أن يكون الجواب مساويا له ، لا يزيد عليه ولا ينقص ، كما لو سئل عن ماء البحر ، فقال : ماء البحر لا ينجسه شيء ، فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف ، كذلك قال ابن فورك ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وابن القشيري ، وغيرهم .

                        الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال ، مثل أن يسأل عن أحكام المياه ، فيقول : ماء البحر طهور ، فيختص ذلك بماء البحر ، ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور ، وابن القشيري ، وغيرهما .

                        الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال ، وهما قسمان :

                        أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر ، وجوابه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله هو الطهور ماؤه الحل ميتته فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ، ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم ، بل يعم حال الضرورة والاختيار ، كذا قال ابن فورك ، وصاحب المعتمد ، والمحصول ، وغيرهم .

                        وظاهر كلام القاضي أبي الطيب ، وابن برهان أنه يجري [ ص: 388 ] في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني ، وليس بصواب كما لا يخفى .

                        القسم الثاني : أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه ، كقوله لما سئل عن ماء بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء وكقوله لما سئل عمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد فيه عيبا : الخراج بالضمان وهذا القسم محل الخلاف ، وفيه مذاهب :

                        الأول : أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال ، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي ، وحكاه الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ ، وسليم الرازي ، وابن برهان ، وابن السمعاني عن المزني ، وأبي ثور والقفال ، والدقاق ، وحكاه أيضا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري ، وحكاه أيضا بعض المتأخرين عن الشافعي ، وحكاه القاضي عبد الوهاب ، والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم ، وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة ، وقال : إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي ، وكذا قال الغزالي في المنخول ، ومعه فخر الدين الرازي في المحصول قال الزركشي : الذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه ، ونقل هذا المذهب القاضي أبو الطيب ، والماوردي ، وابن برهان ، وابن السمعاني عن مالك .

                        [ ص: 389 ] المذهب الثاني : أنه يجب حمله على العموم ; لأن عدول المجيب عن الخاص [ ص: 390 ] المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ، ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ ، وهو يقتضي العموم ، ووروده على السبب لا يصلح معارضا ، وإلى هذا ذهب الجمهور .

                        قال الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب ، والماوردي ، وابن برهان : وهو مذهب الشافعي ، واختاره أبو بكر الصيرفي ، وابن القطان .

                        قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن القشيري ، وإلكيا الطبري ، والغزالي : إنه الصحيح ، وبه جزم القفال الشاشي قال : والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل ، والدليل قد اختلف ، فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه ، فذاك ، وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه ، وحكى هذا المذهب ابن كج عن أبي حنيفة والشافعي ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية ، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين .

                        قال القاضي في التقريب : وهو الصحيح ; لأن الحكم معلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ، ولو قال ابتداء لوجب حمله على العموم ، فكذلك إذا صدر جوابا . انتهى .

                        وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ; لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع ، وهو عام ، ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ، ومن ادعى أنه يصلح لذلك ، فليأت بدليل تقوم به الحجة ، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك ، وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ، ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه ، وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة ، حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملا لها .

                        المذهب الثالث : الوقف ، حكاه القاضي في التقريب ، ولا وجه له ; لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف .

                        المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به ، وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة ، كان ذلك القول العام واردا عند حدوثها ، فلا [ ص: 391 ] يختص بها ، كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي .

                        المذهب الخامس : أنه إن عارض هذا العام الوارد على سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب ، فإنه يقصر على سببه ، وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه .

                        قال الأستاذ أبو منصور : هذا هو الصحيح . انتهى .

                        وهذا لا يصلح أن يكون مذهبا مستقلا ، فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة ، فهو دليل خارج يوجب القصر ، ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية