الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 429 ] المسألة التاسعة : في الاختلاف في الاستثناء من النفي

                        اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي .

                        وأما الاستثناء من النفي ، فذهب الجمهور إلى أنه إثبات ، وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا ، وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة ، وهي عدم الحكم ، قالوا : فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه ، لا بالنفي ولا بالإثبات .

                        واختلف كلام فخر الدين الرازي فوافق الجمهور في المحصول ، واختار مذهب الحنفية في تفسيره .

                        [ ص: 430 ] والحق ما ذهب إليه الجمهور ، ودعوى الواسطة مردودة ، على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازما في الاستثناء من الإثبات ، واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله .

                        وأيضا نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ، ويرد عليه ، ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لم تكن كلمة التوحيد توحيدا ، فإن قولنا : لا إله إلا الله ، هو استثناء من نفي ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .

                        وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك : ثنيت الشيء ، إذا صرفته عن وجهه ، فإذا قلت : لا عالم إلا زيد ، فهاهنا أمران : أحدهما : هذا الحكم .

                        والثاني : نفس العلم .

                        فقولك : إلا زيد ، يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول ، وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت ، إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم ، فيبقى المستثنى مسكوتا عنه ، غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات ، ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثاني ، وحينئذ يلزم تحقق الثبوت ; لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة ; لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى ، إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية ، لا على الأعيان الخارجية ، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى .

                        وحكى عنهم الرازي في المحصول أنهم احتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا نكاح إلا بولي ، ولا صلاة إلا بطهور ، ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ، ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء ، بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين .

                        [ ص: 431 ] هكذا حكى عنهم في المحصول ، ولم يتعرض للرد عليهم .

                        ويجاب عن الأول : بمنع ما قالوه ، ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي ، لكان مستفادا من الوضع الشرعي .

                        وعن الثاني : بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي ، فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة ، وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي ، فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها ، فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله ; لأنا لم نقل لا نكاح إلا الولي ، ولا صلاة إلا الطهور ، بل قلنا إلا بولي ، وإلا بطهور ، فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه ، فيكون التقدير : لا نكاح يثبت بوجه إلا مقترنا بولي ، أو نحو ذلك من التقديرات .

                        قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام : وكل هذا عندي تشغيب ، ومراوغات جدلية ، والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة - يعني كلمة الشهادة - وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد ، وحصل الفهم منهم بذلك ، والقبول له من غير زيادة ، ولا احتياج إلى أمر آخر ، ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه ; لأنه المقصود الأعظم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية